قاطعتُ التلفزيون بقرار غير مفهوم في مراهقتي، وابتعدت عنه لسنوات وعن مشاهدة السينما والمسرح بشكل عام، كانت بداية انتشار الإنترنت، وكنت مأخوذة بإمكانية التواصل مع صديقاتي في مدرستي القديمة عن طريق الدردشات، وكذلك بمشاهدة "الأنمي" الذي كان يشغل عقول كل مراهقي جيلي.
عدت للاهتمام بالسينما والتلفزيون خلال عزلة الكورونا، ليس فقط بدافع محاولة ملء الفراغ المهول الذي احتل حياتي، لكن بدافع الفضول منذ أن بدأت الاهتمام بالنقد السينمائي، ومنذ أن اشتعل شغفي تجاه كتابة الأفلام والكتابة للتلفزيون.
شاهدت كثيراً من الأعمال الجيدة التي فاتتني في دراما الرمضانات التي كنت منقطعة فيها عنها، وآخر عمل شاهدته هو مسلسل "أفراح القبة"، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم لأديب نوبل نجيب محفوظ، الجميع يعرف هذا العمل الأدبي، وعدد أكبر يعرف العمل التلفزيوني البديع الذي ضم عدداً كبيراً من النجوم.
ترصد الرواية حقبة زمنية معينة من خلال المسرح؛ فرقة الهلالي المسرحية التي تقوم بتقديم أعمال روائية عالمية وعربية على خشبتها، وتحكي لنا حكاية أبطال المسرح من خلال جعلهم هم نفسهم أبطال مسرحية تحكي قصتهم، ترصد الرواية فساد الأهل والانحياز للسلطة ومعاني مثل الحب والخيانة والسعي والصداقة والشرف.
تحكي عن قصص حيوات الفنانين المأساوية، وعمَّا دفعهم حب الفن لارتكابه من خطايا وتنازلات، وما قدموه من تضحيات لأجل الحصول على فرصة لإثبات أنفسهم، مَن قامت ببيع جسدها ومن قام بخيانة صديقه، اليائس والطموح ومنعدم الهوية والخسيس والشريف، المناضل السياسي واللامبالي غير بنفسه وغيرهم.
لكن الحقيقة ما أود الحديث عنه هنا ليس هذا العمل، بل ما دفعني هذا العمل للبحث عنه؛ كنت أود أن أعرف عن حياة المسرح الحقيقية، من المتعارف عليه أن الروائي والقاصّ والشاعر يحاول دائماً البحث عن الجانب غير المعروف، فضح خبايا الواقع المزيف، الآن وقد عرفت ما يحاول محفوظ فضحه عن مسارح عماد الدين، ما الجانب الطبيعي والنظيف لفرق المسرح في ذلك الوقت؟!
في ذلك الوقت كانت هناك أربع فرق مسرحية تحتل شارع عماد الدين بأفيشاتها الضخمة ومشخصاتيها الموهوبين، وتنافسهم المستميت حول تحويل الأعمال الروائية لمسرحيات، والحصول على طوابير طويلة أمام شباك التذاكر. فرقة "مختار عثمان"، وفرقة "نجيب ريحاني"، وفرقة " يوسف وهبي"، وفرقة "علي الكسار". في واحدة من هذه الفرق كانت هناك شابه صغيرة تقف على المسرح لأول مرة، لاعبةً دور أخت الفنانة الكبيرة "زينات صدقي" في مسرحية "دكتور يويو"، هي الشابة "زوزو نبيل"، ممثلة لأول مرة في فرقة مختار عثمان المسرحية.
"الطفلة الأم"
اسمها الحقيقي هو عزيزة إمام حسنين، أما اسمها الفنيّ فقد حصلت عليه باختصار اسمها الأول "عزيزة" لـ"زوزو"، ونبيل هو اسم ابنها الوحيد الذي نتج عن زواجها الأول بمأمور قسم طرة. في رواية أفراح القبة كانت هناك أيضاً فنانة شابة مغرمة بالمسرح، وتود بشدة لو دخلت عالم المشخصاتية، هي الفنانة "تحية عبده"، التي لعبت دورها بجدارة وتميز النجمة "منى زكي"، تحية أيضاً حين دخلت عالم المسرح اختصرت اسمها الأول لـ"توحة عبده"، توحة في المسلسل التلفزيوني من أسرة معدمة، أمها أشهر قوادة في حارتهم، تسرِّح ابنتها لإمتاع الرجال في مقابل الحصول على المال، وأبوها يكتشف أمر شذوذه الجنسي ويقصى بعيداً عن الأسرة بينما كانت تحية مجرد طفلة صغيرة.
زوزو نبيل أيضاً كانت مجرد طفلة حين تم زفها إلى بيت مأمور سجن طرة، بينما جلست الأم بجانب طفلتها التي لم يتخطَّ عمرها الأربعة عشر عاماً تقص عليها الوصايا الذهبية للحصول على حياة زوجية سعيدة، لا تتحدثي إلا إذا طلب منك ذلك، لا تشتكي لي أبداً ولا تقصي عليَّ أياً من المشكلات التي تحدث بينك وبين زوجك، لا تنادي على حماتك بطنط؛ اسمها نينا، ممنوع الخروج، ممنوع النظر من الشباك… ممنوع التنفس بدون إذن!
قضت زوزو نبيل شهر عسلها في مسكن يطل على سجن طرة، بل يكاد يكون واحداً من زنازينه، وبعد تسعة أشهر فقط أنجبت ابنها الوحيد نبيل، قضت عام حملها كاملاً في البيت، ترى الشارع اختلاساً من بين فتحتات المشربية القديمة الدائرية. وذات مرة حين أصابها تحجر في معدتها وشعرت بثقل لا تحتمله، ألبستها حماتها بيشة وأخذتها وهي متّشحة بالسواد للتمشية حتى محطة ترام المعادي من دون أن يعرف أحد، قائلة إن هذا سيساعدها جداً حين يئين أوان وضع الطفل.
حصلت عزيزة حسنين على الطلاق بعد ذلك، وأحبها زوجها الثاني، لكنه لم يتقدم للزواج منها سوى بعد ثلاث سنوات من حصولها على الطلاق، تقول زوزو نبيل إنه كان يقوم بمراقبتها خلال ذلك الوقت ليعرف كل تفصيلة عن سلوكها.
بدايتها مع الفن
ذات مرة، جاءت سنية لزوزو وقالت: "تحبي تشتغلي في الفن؟" فردت: "يعني إيه؟ أرقص يعني ولا إيه؟" وقد حكت السيدة عزيزة في حلقة تلفزيونية مع المذيع مفيد فوزي أنها فكرت أنها كانت تريدها أن تعمل في فرقة غنائية لتقوم بتمييل رأسها يميناً ويساراً خلف المطربة، لأنها في ذلك الوقت كانت تذهب بصحبة أمها لحضور حفلات رقص بديعة، وتجد هناك الغناء وهؤلاء الذين يتمايلون.
فقالت لها سنية إنها ستجعلها تُمثل، وقد عُرف عن زوزو مهارتها في أداء الإذاعة المدرسية وتأدية أناشيد الصباح، وهذا بالضبط ما حكته لمختار عثمان حين سألها إن كانت تستطيع التمثيل أو لا، وبعد أن أملت عليه شروطها بأنها لا ترقص ولا تلبس الـ"مايوه" أبداً، بدأت رحلتها بتجسيد دور أخت زينات صدقي على خشبة المسرح.
بجانب المسرح الذي كانت تؤدي عليه زوزو نبيل أول أدوارها كان هناك مسرح "يوسف وهبي"، المعروف بالحزم والانضباط. وبالمصادفة كان يوسف وهبي يشاهدها وهي تؤدي في مرّتها الأول، فذهب لمختار عثمان قائلاً: "مختار، البتّ دي أنت جبتها منين؟" فردّ عليه: "وقعت عليّا من السما"، وحين انبهر بها وهبي قرر البدء في محاولات استمالتها للعمل معه، عن طريق حسن البارودي، لكنها رفضت ولاءً لأول من منحها فرصة العمل كمشخصاتية، لكن يشاء القدر بعد ذلك أن تنهار فرصة مختار عثمان، وأن يصطحبها بنفسه لمكتب يوسف وهبي، بعدما عرض عليها وهبي أن تأخذ مهيّتها 8 جنيهات بدلاً من الـ6 التي كان يمنحها لها مختار. فوافق مختار حرصاً منه على مصلحة زوزو وموهبتها الثرية.
علاقات الفنانين في ذلك الوقت
كان مسلسل أفراح القبة ممتلئاً عن آخره بالصراعات والمكائد، صراعات للتخلص من رؤساء الفرقة، وصراعات لإزاحة أبطال الدرجة الأولى عن الطريق، ومحاولات رئيس الفرقة سرحان الهلالي لتثبيط عزيمة أبطال الدرجة الثانية حتى يحافظ على اتزان فرقته بغض الطرف عن المواهب التي يدفنها في التراب في طريقه.
أما فرقة يوسف وهبي فلم تخلُ كذلك من الغيرة والضغائن، تحكي السيدة عزيزة إمام حسنين أنها حين وضعت قدمها في الفرقة المسرحية كانت أقدام أربع سيدات توضع خارج خشبتها لآخر مرة، حين رفضن جميعاً أن تأخذ فتاةٌ شابة نفس مهيتهن.
لكن شارع عماد الدين لم يخلُ كذلك من المواقف النبيلة، لأن سيدات عظيمات ذكرتهن عزيزة في حديثها، حذّرنها مرات عديدة من قبول مهيات أقل مما تستحق، حيث كان يتفنن المنتجون في بخسها حقها لصغر سنها، وسيدات أخريات كُنّ يستأذنّ منها قبل الإقدام على قبول أدوار رفضتها هي من قبل.
مسرح وراديو وتلفزيون وحياة حافلة
ولدى الشهرزاد تاريخ طويل من الوقوف على خشبة المسرح ووراء الكاميرا وخلف جهاز التسجيل، يقول الناقد السينمائي محمود عبد الشكور في حلقة مسجلة على مجلة أكتوبر إنه وجيله من مراهقي السبعينات كانوا الأكثر انتماءً لصوت زوزو نبيل الذي يصدح من المذياع مجسداً حكايات ألف ليلة وليلة، ولقد كان مأخوذًا بفكرة رؤيتها أخيراً، حين قامت بالتمثيل مع سيدة الغناء العربي أم كلثوم في فيلم سلامة.
انتقلت زوزو نبيل كما يُقال في المثل الشعبي "من الدار للنار"، فلم تعش طفولتها ولا مراهقتها، لأنها انتقلت من المدرسة الإعدادية إلى عش الزوجية مباشرة، لكنها قبل ذلك حظيت بفترة قصيرة من اللعب بالكرة القماش وحمل الحديد في نادي أبو سريع، في بيتها الأول الذي شهد مولدها عام ١٩٢٠ وشهد كذلك انطلاق زفرات الغضب والحنق من أبوها سي إمام الذي لم يكن يرغب في الحصول على صبية.
يسألها مفيد فوزي: "اسمحي لي أن أتجرأ وأسألك هذا السؤال، والحقيقة الذي دفعني لهذا هو الأسماء التي تذكرينها والتي لا علم لي بها أبداً رغم كثافة قراءتي في تاريخ المسرح، وكذلك لأنه يدهشني مدى تماسك ذكرياتك وقدرتك على استعادة واستحضار الأسماء، كم عمرك يا مدام زوزو؟".
فترد: "انظر، ليس هناك حواء واحدة تحب ذكر عمرها أبداً، لكن.. أنا عندي سبعين سنة".
تُرى هل علمت والدتها أنها حين أطلقت عليها اسم عزيزة في عام ١٩٢٠ أن العزة سترافقها دائماً حتى ترحل عن عالمنا في عام ١٩٩٦ تاركةً بصمة لا تنسى؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.