كان خروج الولايات المتحدة من أفغانستان درامياً، بل وفاصلاً في التاريخ المعاصر، وقارنه البعض بالفشل السوفييتي في ذات البلد الوعر، وبشّر البعض بانهيار سياسات الولايات المتحدة، مقارنةً بانهيار الاتحاد السوفييتي الذي أعقب خروجه من أفغانستان.
إلا أن الولايات المتحدة ليست الاتحاد السوفييتي، ولن يكون سقوطها بتلك السهولة، لكن تعثرها محتمل -ولو بنسبة ضئيلة- والسبب هو بالطبع -كما ينظّر العديد من المفكرين اليساريين- هي الرأسمالية.
إن المال يشتري كل شيءٍ في الولايات المتحدة والشركات تستطيع أن تشتري القوانين بنتائج مضمونة النجاح.
ومع مرور الوقت، أصبحت الإدارة الأمريكية أكثر تيبساً عن ذي قبل، وصارت الحكومة والكونغرس مكبلين بمصالح أباطرة رأس المال، ولم يعد هناك أملٌ في نجاة تلك البلاد من الانحدار التدريجي إلى الفوضى، وهي عملية قد تكون بطيئة، لكنها -بلا شك- أمر واقع.
صعود الشعبوية
شهدت الأعوام الماضية صعود نغمة الشعبوية في العالم المتقدم، وكان انتخاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب محطة هامة في هذه الموجة، وهي رد فعل لسخط شعوب أوروبا الغربية والولايات المتحدة تجاه سياسات الرأسمالية، وتململهم من كل مكونات هذا الوضع، من سلطة الشركات وسطوة المليارديرات إلى الليبرالية والاتجاه العام لإسقاط "الأبوية" وإخصاء ذكورية المجتمعات المزعومة.
تلك الموجة لن تنحسر بفشل ترامب الذي حدث في الانتخابات، لأنها تتغذى على السخط، وكما نرى جميعاً فإن أسباب السخط لم تختفِ.
إن أوروبا بانتظار هتلر جديد على ما يبدو، فإن المناخ العام مهيأ لهذا، ويتبدّى هذا أكثر ما يتبدى في الانقسام الأوروبي، وهذا ما ظهر في الخلاف الأخير بين فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة بسبب صفقة الغواصات المقدمة لأستراليا، والذي قررت فرنسا على إثره سحب سفرائها إلى الحليفين الكبيرين.
لا يوجد إلى الآن شخصية كاريزماتية في أوروبا تستطيع الحشد، وهذا ما يفتقد له اليمين البديل Alt Right الذي صعد مؤخراً في الغرب.
الخوف من التنين الصيني
ويأتي هنا دور الصين، وهي الفزاعة التي تخيف الغرب، وتقلق الولايات المتحدة، التي تربعت على عرش العالم منذ ثلاثين عاماً دون منافس حقيقي، حتى تنامت قوة الصين إلى حد أن أصبحت خطراً حقيقياً يهدد العرش الأمريكي.
إن عالماً ذا قطبين، الصين وأمريكا، سيؤدي إلى تنامي العديد من الصراعات، كما أن زعامة صينية للعالم ستعزز من صعود الأنظمة الشمولية، إن للصين أولويات وقيماً أخرى عن الغرب.
لكن الولايات المتحدة تدرك هذا جيداً، ولهذا تدق طبول الحرب مع الصين، وهي حرب بدأت اقتصادية، لكن من غير المستبعد أن تتحول إلى حرب حقيقية.
إن ما يحدث في بحر الصين الجنوبي من جانب وصفقة الغواصات النووية الأمريكية إلى أستراليا هي دليل على أن الولايات المتحدة لن تتردد في اتخاذ قرارات راديكالية تجاه الصين.
ومن جانبٍ آخر، فإن الصين ذاتها تواجه العديد من المشاكل، ومنها الأزمة المالية التي تلوح في الأفق على إثر تعسر أكبر المطورين العقاريين في البلاد وعجزه عن سداد دين فوائده تخطت المئتي مليون دولار.
وإن كانت الصين تواجه العديد من العقبات، فالجبهة الأمريكية أصبحت منقسمة عن ذي قبل.
عالمٌ أكثر عنفاً
إننا إزاء عالم متعدد الأقطاب، وهي حقيقية ستصبح أكثر وضوحاً في السنوات المقبلة، مع صعود قوى أخرى مثل الهند وألمانيا. وقد تصبح تلك القطبية واقعاً قريباً إن شهدت فرنسا وألمانيا تغيراً في القيادة والاتجاه.
في خلفية الأحداث، تتصاعد أزمة الاحتباس الحراري، وهو ما كان مجرد نظرية يحذر منها العلماء في الماضي، وأضحى الآن حقيقة نعيشها ونعانيها.
إن ارتفاع الحرارة سيؤدي إلى العديد من الظواهر السلبية، ومنها -وفقاً لقول بعض العلماء- انتشار العنف، أي أن العالم سيشهد عنفاً أكثر من ذي قبل، في السنوات التالية.
للأسف، وفيما يبدو، إن الغد لن يجلب حلولاً للمشاكل المتفاقمة في العالم، بل سيشهد تسديد العديد من الفواتير للإهمال والفساد الذي اجتاح الأرض، وسيتفجر الغضب والإحباط المتراكم في العالم في موجة من الثورات التي قد تشعل حروباً، ستعيد العالم إلى الوراء.
إن التاريخ يتحرك في دوائر مفرغة مثله مثل الإنسان في صراعه السيزيفي مع الحياة، لكن، هل من الممكن أن نتخيل سيزيف سعيداً يوماً ما؟ الأيام التالية ستعطينا الجواب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.