غداة نيل حكومته ثقة البرلمان، مضى الرئيس نجيب ميقاتي في مسارين؛ داخلي وخارجي، بهدف اقتناص فرص، وللاستفادة من الضمانات الخارجية التي تحدث عنها عقب تكليفه، والتي تتوزع بين واشنطن وباريس والقاهرة، فيما نشط القصر الحكومي على ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في ظل البدء الإسرائيلي بالتنقيب، حيث سيقوم بمناقشة هذا الملف وغيره خلال زيارته المنتظرة إلى فرنسا ولقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي سيقيم على شرفه استقبال ومأدبة غداء في قصر الإليزيه، وسيسعى ميقاتي في لقائه ماكرون وبرنار إيمييه إلى التباحث في موضوع الإعلان الإسرائيلي عن تلزيم التنقيب في حقل كريش البحري، في خطوة يعتبرها اعتداءً على حقوق لبنان النفطية والغازية في هذه المنطقة المتنازع عليها بينه وبين إسرائيل.
فيما النقاش الرئيسي مع الإدارة الفرنسية يكمن في تحريك مقررات مؤتمر سيدر الذي عقد في فرنسا عام 2018 للدول المانحة وخصصت فيه مبالغ للبنان شريطة تنفيذ إصلاحات والتي من شأنها أن تُمكّن لبنان من الحصول على أكثر 4 مليارات دولار، في ضوء وعد من ماكرون بتمكين لبنان من ذلك.
كذلك فإن ميقاتي يريد من هذه الخطوة ملاقاة المفاوضات المرتقبة بين لبنان وصندوق النقد الدولي الذي كان قد تردد سابقاً بأنه سيمنح لبنان قروضاً ببضعة مليارات لتنفيذ بعض المشاريع الإنمائية والحيوية على مستوى البنى التحتية، وذلك في حال الاتفاق مع السلطات اللبنانية على تنفيذ الإصلاحات المقررة ضمن المبادرة الفرنسية.
في السياسة نجحت إدارة ماكرون الخارجة من أزماتها المتتالية في المنطقة والبحر المتوسط، من تمرير الجزء الرئيسي في مبادرتها المبتورة، بناءً على توافق مع طهران وبغض نظرٍ من إدارة بايدن. لكن ما هي إلا أيام على تشكيل الحكومة حتى انفجر الخلاف الأمريكي- الفرنسي بشكل مفاجئ وغير متوقع: في البداية أبرمت فرنسا صفقة بقيمة 27 مليار دولار في العراق بالتفاهم مع إيران، لكنها خسرت بضربة أمريكية قاصمة صفقة 90 مليار دولار مع أستراليا في الغواصات النووية، وذلك في إطار تفاهم مستجد بين الأمريكيين والأستراليين حيث قررت التخلّي عنها واعتماد غواصات أمريكية تعمل على الطاقة النووية ويمكن أن تحمل سلاحاً نووياً.
وذلك في سياق المواجهة المفتوحة مع الصين، التي وفق واشنطن تستحق هذه المغامرة بالعلاقة مع دولة شريكة وصديقة كفرنسا، لأن إخافة الصين النووية وردعها عن محاولة ابتلاع جيرانها لا يمكن أن يتحققا إلّا نووياً.
فيما باتت تتضح يوماً بعد يوم ما ورائيات القرار الأمريكي وقف التورُّط في أزمات الشرق الأوسط، من أفغانستان شرقاً إلى لبنان غرباً، مروراً بالخليج والعراق وسوريا. وباتت النظرة الأمريكية تنطلق من قاعدة رئيسية هي أنه على شعوب المنطقة أن تعالج أزماتها ومشاكلها السياسية والأمنية لوحدها، على أن تحتفظ الولايات المتحدة بالحدّ اللازم من النفوذ، وتدير الأمور عن بُعد؛ لأن أزمات الشرق الأوسط، وعلى مدى عشرات السنين، كلفت الأمريكيين مئات المليارات وعشرات آلاف من الجنود، وشغلتها عن مناطق أخرى في العالم باتت اليوم أكثر حساسية من الناحية الاستراتيجية، خصوصاً بعد تنامي الحضور الصيني اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. ولذلك، يريد بايدن إعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمية بالتوافق مع دولها وخفض التوترات بين مكوناتها وهذا ما يبدو من خلال المصالحات الجارية بين خصوم الأمس في منطقة الشرق الأوسط وترك أفغانستان بيد حركة طالبان بالتنسيق مع القطريين والأتراك.
وبايدن، كما ترامب قبله، متمسك بالنظرة الاستراتيجية التي ترسمها المؤسسات السياسية والأمنية والمالية في الولايات المتحدة، وهي تقليص الخسائر المادية والبشرية معطوفاً عليها الذهاب نحو تحميل مشاكل المنطقة للخصوم، وتحديداً فإن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان مرتبط بتوريط الصين في وحول الصراع الأفغاني.
لبنان الضعيف بين قوتين
لبنانياً فالتباين الأمريكي مع باريس مرتبط بملف الطاقة والتنقيب عن النفط. الفرنسيون يسعون إلى تكرار تجربتهم العراقية مع إيران في لبنان، أي مصطفى الكاظمي ونجيب ميقاتي، وباريس عبر دبلوماسيتها حريصة على الدخول كوسيط في معضلة ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، وتحديداً بعد فوز شركة أمريكية بعمليات التنقيب عن النفط في المناطق المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل. وهنا تضع واشنطن شرطاً واضحاً على لبنان: إما أن يلتزم باتفاق الإطار والشروط الموضوعة، وإما لن ينجح في الترسيم ولن يبدأ بالتنقيب عن النفط والغاز.
فيما إعادة إعمار مرفأ بيروت والفوز بمشاريع متعددة تسعى باريس إلى كسبها في لبنان تعارضها واشنطن، وتؤكد أنها لن تسمح لباريس بالحصول عليها إلا تحت السقف والشروط والمعايير الأمريكية، واشنطن نفسها باتت تدرك أن باريس حاضرة لعقد صفقات مع إيران وحزب الله على حساب المعايير والتوازنات الأمريكية.
وكان الزميل منير الربيع كتب أن هناك خلافاً أمريكياً- فرنسياً حول مهام عمل قوات اليونيفيل في جنوب لبنان. ولطالما كانت واشنطن تضع شروطاً أساسية لاستمرارها في تمويل اليونيفيل كي تتابع عملها. وسابقاً كانت واشنطن تريد تقليص العديد من القوات الدولية وتخفيض ميزانيتها، في حال عدم توسع مهامها وصلاحياتها وتعزيزها عسكرياً وتقنياً. لكن باريس كانت تتدخل لمنع ذلك، ونجحت في تمرير مشروع التمديد بدون أي تعديل. وحالياً من المرجح أن يستجد خلاف كبير، لأن واشنطن قد تعتبر أنه من غير الملائم الاستمرار في تمويلها النسبة الأكبر من مخصصات اليونيفيل، فيما القوة الأكبر فيها فرنسية.
فيما الفرنسيون غير راضين عن التطبيع الاقتصادي بين لبنان وسوريا والذي افتتحته واشنطن وهي حريصة على أن يكون التطبيع مربوطاً بتفاهماتها مع إيران ومستقبلاً مع موسكو، لذا فإن مطلعين يؤكدون أن إدارة الإليزيه ستحاول الرد على ضربة الغواصات التي تلقتها من الأمريكيين بالذهاب إلى المزيد من الاتفاقات مع طهران أو بإقامة تفاهمات اقتصادية مع الصين والذي سيضر بخريطة التحالفات التي تسعى واشنطن إلى رسمها في المنطقة، وعليهِ فنقاط الاتفاق بين إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي ستتقلص بعد أن حقق خرقاً في إنجاز حكومة نجيب ميقاتي.
وعليه يجمع المراقبون في الساحة اللبنانية على أنه بات يجب فهم حجم الانعكاسات الحاصلة للمواجهات الجديدة والتباينات التي ذهبت باريس لخوضها عقب أزمة صفقة الغواصات الفرنسية مع أستراليا، التي تعني فتح مواجهة سياسية مع واشنطن ولندن وأستراليا، كما الأمر بالنسبة لوقف صفقة الطائرات الفرنسية المقاتلة مع سويسرا، في انتظار لملمتها إن كان ذلك ممكناً، قبل إلغاء الخوف من انعكاساتها السلبية على الدور الفرنسي في لبنان والمنطقة في نتيجة الحال، وخصوصاً إذا ثبت أنّها كانت رد فعل على حصول إدارة ماكرون على الصفقة التي حظيت بها شركة توتال في العراق.
وإلى أن يحدث جديد.. فلننتظر وللحديث صلة!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.