"روان.. إنتِ بتحبي دكتور أحمد خالد توفيق.. فاقرئي هذا الكتاب له".
تلك جملة سمعتها كثيراً، لا أجد لها جواباً شافياً فأقابلها عادةً بابتسامة وجلة، محاولةً كتم الضحكة.
لم أكن يوماً من قرّاء أحمد خالد توفيق حتى وفاته- رحمه الله- ولم أستسغ كتاباته كثيراً بعدما عرفتها أيضاً، يفترض الجميع كوني محبة للأدب وبنت محافظة الغربية، ويتشارك والداي معه المهنة والجامعة، أنني من مريدي أحمد خالد توفيق الأثيريين. حقيقة ذلك غير صحيح بالمرة، حالتي هذه وضعتني في مواقف محرجة أوقاتاً كثيرة، خاصة حينما أُعرب عن رأيي في أعماله صراحةً، ما جعلني أتساءل عن سر تعلُّق الشباب به، لا مجرد كاتب يحبونه.
أنا من جيل أبناء العراب أحمد خالد توفيق، ولست منهم؛ لذا يمكنني الإدلاء بشهادة محايدة حوله وحول أسباب تأثر الشباب به، وتأثيره في المشهد الثقافي في مصر حتى وفاته- رحمه الله- عام 2018.
قبل أن نُسهب في سرد أسباب كونه ظاهرة أدبية فريدة من نوعها من حيث الاستمرارية والقبول الجماهيري الكاسح، علينا أولاً أن نتأمل في تأثيره، فقد احتلت كتبه ورواياته قائمة الكتب الأكثر مبيعاً حتى بعد وفاته، ظاهرة فسرها هو بأن الفئة الأكثر قراءة في مصر هي الشباب بين سن الخامسة عشرة والخمسة وعشرين، الفئة التي توجّه لها منذ بداية مسيرته الأدبية مع سلسلة "ما وراء الطبيعة" عام 1993؛ لذا فقد وُفق أحمد خالد توفيق في اختيار قُرّاءه منذ البداية، أراد أن يتوجه للسن الخصبة غير المُتشكّلة بعد؛ ليصنعهم على يديه، جنازته المهيبة شاهد آخر على تأثيره ونجاحه في مبتغاه، جنازة لا تتناسب مع كاتب بل مع زعيم شعبي- زعيم للشباب اختاروه بأنفسهم- كل هذه الشواهد أثبتت أنه شخص يستحق التأمل، أما عن أسبابها فأسردها فيما يلي:
يشبهنا كثيراً
فقد تمسّك بالإقامة بمسقط رأسه مدينة طنطا، ورفض الانتقال للقاهرة جملة وتفصيلاً؛ فرأى فيه كل أبناء الأقاليم أنفسهم، لا يخاطبهم بفوقية ولا يحادثهم عن بيئات لا ولن يعرفونها، ناهيك عن انتمائه للطبقة الوسطى، وتعبيره بصراحة وخفة ظل عن حياة أبنائها اليومية، خاصة في مقالاته، مقالات ندر أن تجد فيها ذكراً للقاء بسفير أو وزير أو رحلة لأفخم منتجعات العالم، بل أزمة أنبوبة البوتجاز وخروف العيد… إلخ.
كان بوسع أحمد خالد توفيق أن يخوض العديد من التجارب الخلابة، إلا أن طبيعته الانطوائية وقفت حجر عثرة أمام ذلك؛ فصار أقرب للناس وأكثر تعبيراً عنهم كونه- كما وصف هو نفسه- "شخصاً مملاً للغاية".
مُكتفٍ بالشباب
أحمد خالد توفيق كان مكتفياً بالشباب، ويصفهم بأنهم أبناؤه، حتى عندما سُئل عن كتاباته لروايته الأولى "يوتوبيا"، قال: "لقد كبر قرّائي فأردت أن أكتب لهم رواية تناسبهم"، هذا بالطبع غير نضجه الأدبي المؤهل له لمرحلة الرواية، وانفعاله بالوضع الاجتماعي والاقتصادي في مصر حينها، عام 2008. أيضاً كان العراب يتواصل مع أكثر من ألف شاب بصفة شبه دورية- على حد قوله- غير دخوله المستمر للمنتديات بأسماء مستعارة، وخوضه لأحاديث ونقاشات كثيرة مع آلاف الشباب على مدار سنوات، هؤلاء الشباب كانوا مرآة جيلهم، ما يسّر عليه مخاطبة ذلك الجيل.
لم يتوقف الأمر عند التواصل، بل امتد لدعم حقيقي في مقالات، مثل: مقال "شباب عايز الحرق"، مقال نكّل بالمتربصين بالشباب، كما وصف الشباب المصري بأنهم: "شباب رائع يتم إفساده ليلاً نهاراً"، اكتفاؤه ظهر في تماهي أبطاله معهم أيضاً، فاعتمد فلسفة البطل الضد، بطله ليس قوياً أو وسيماً أو ذاً مهارات خاصة، فهو يمتلك عقله وعِلمه فقط لا غير، بطل قابل للمحاكاة بدرجة كبيرة، أما السبب التالي فيخص كتاباته.
معبر آمن
عُرف أحمد خالد توفيق ككاتب رعب- أدب درجة ثانية كما يراه النقاد- ما جعله بعيداً عن أعين النقاد لفترات طويلة؛ فأخذ يتعامل مع الشباب بمعاييره الخاصة، دون وجود أي رقابة أو تقييم خارجي من خبير، رعبه انتمي للرعب القوطي، وهو أحد فروع المدرسة الرومانسية في الأدب، أدب يلبي أكثر ما يحتاجه المراهقون، ألا وهو الهرب من واقعهم وسبر عوالم أخرى، هم كذلك قادرون على التفاعل مع الرعب الخيالي؛ كونهم لم يخبروا رعب الواقع بعد.
كما تميزت كتاباته بعدم وجود أفكار شاذة أو غير مستساغة أو حتى جريئة بها، أدب "عمو أحمد خالد" كما وصفه صاحبه، حقق أدبه المعادلة الصعبة، أدب شيق جذاب بلا جنس أو عيب في الدين، ما أهّله لملء فراغ بين أدب الأطفال والأدب الحقيقي، بيني وبينك- أحياناً- أغبط قراء العراب على حيازته لهذا المعبر الآمن، فأول رواية قرأتها بعد هاري بوتر هي واحة الغروب لبهاء طاهر، ولَكم كان السقوط مدوياً، بالحديث عن كتاباته هناك سبب آخر مشترك بينه وبينها زاد من حظوته عند الشباب.
رَفَع سقف المعرفة
أحمد خالد توفيق ينتمي لفئة المثقفين الشعبيين، رغم كونه واسع الثقافة والاطلاع فإنه قادر على محادثة رجل الشارع بلغته وتوصيل أعقد المفاهيم الفلسفية له بطريقة بسيطة وبأحداث من وحي حياة الأخير اليومية، ندر أن تجد مقالاً أو قصة له بلا ذكر أديب أو عالم أو فنان، يقول لقرّائه لست الأخير، أنا فقط أفتح باب المعرفة لك، بقياس الزمن حينما بدأ الكتابة في التسعينات لم تكن مصادر المعرفة متاحة ولا يسيرة مثل اليوم، فكان مصدراً معرفياً ثرياً وبسيطاً في الآن ذاته، شخصياً لا أفضل الأعمال الأدبية المتكدسة بالمعلومات والمصادر، لكنه أفلح بها- إلى مدى- وتقبّلها قُرّاؤه- وهو الأهم- يؤكد ذلك قيامه بترجمة وتلخيص عدد ليس بقليل من روايات عالمية للجيب.
لم أحب أحمد خالد توفيق ككاتب، تقبلته في النهاية، إلا أنه لم يأخذ مكانة كبيرة عندي، أحببته كإنسان من مشاهدتي للقاءاته التلفزيونية، ومن قراءاتي لمقالاته الساخرة، وفي كل الأحوال نحن نرى تأثيره اليوم في اجتاح أدب الرعب وكُتابه للمشهد الأدبي، وازدياد عدد الشباب المقبلين على القراءة بوجه عام، وهذا والله فتح من فتوح العصر. رحم الله العراب وجعل عمله في ميزان حسناته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.