لاحظ العديد من المراقبين توجه "العدالة والتنمية" في مجلسه الوطني، الأحد 18 سبتمبر/أيلول 2021، إلى تفعيل الجواب التنظيمي، من خلال المصادقة على اللجنة التحضيرية للمؤتمر الاستثنائي (رئيس وثلاثة أعضاء)، فقد غير المجلس ترتيب جدول أعماله، وبدأ بهذه النقطة، وجعلها ذات أولوية تسبق من حيث الترتيب مهمة النقاش السياسي حول أسباب الهزيمة ودلالاتها.
رسالة المجلس الوطني واضحة، فالأمانة العامة للعدالة والتنمية حين قدمت استقالتها السياسية، وتحملت مسؤولية هذه الهزيمة، جسرت الطريق أمام قيادة جديدة، وأي إصرار منها للعودة من جديد إلى مربع القيادة، ليس فقط السير ضد تسونامي الحزب الغاضب، ولكنه مناقض لطبيعة السياسة.
الأسماء التي تمت المصادقة عليها، في نظر كثيرين، هي قريبة من الأستاذ عبد الإله بن كيران، مع أن القيادة المستقيلة هي التي اقترحتها، لكن السوابق التنظيمية تؤكد أن هذه الأسماء هي التي أدارت بنجاح عدداً من الاستحقاقات التنظيمية الحساسة، فجامع المعتصم، الذي كان بديوان كل من رئيس الحكومة السابق بن كيران ورئيس الحكومة التالي سعد الدين العثماني، هو الذي رأس اللجنة التحضيرية للمؤتمر الأخير الذي تم فيه انتخاب الدكتور سعد الدين العثماني أميناً عاماً للحزب، بعد نهاية ولاية بن كيران على رأس الحزب، وبعد رفض المجلس الوطني أن يمنح له ولاية ثالثة.
ولم يساير المجلس الوطني الذي اختار في بيانه الختامي بعض الأصوات التي كانت تدفع لتقديم طعن سياسي في العملية الانتخابية، من خلال تأكيد قراءتها للنكسة الانتخابية على أساس أنها ناتجة عن عوامل موضوعية (الإفساد الانتخابي)، وتبنَّى السقف ذاته الذي حددته الأمانة العامة لموقفها حين اعتبرت أن نتائج الانتخابات غير منطقية وغير مفهومة، ولا تُعبر عن الخارطة السياسية الحقيقية ولا عن الموقع الذي يحتله الحزب.
معنى ذلك أن المجلس الوطني رفض أن يكون سقفه أعلى من سقف الأمانة العامة، لأن الذي أدار الاستحقاق الانتخابي هي الأمانة العامة، وأنه لا يمكن أن يكون بديلاً عنها في تصريف المواقف التي عجزت هي ذاتها عن التعبير عنها.
السؤال الذي ظل مخيّماً على النقاش السياسي الذي دار في المجلس الوطني، هو سؤال المستقبل، وهل هناك إمكانية أن يستعيد موقعه في المشهد السياسي، وهل الأمر يتوقف فقط على وجود قيادة جديدة؟ أم يتوقف على مراجعة المشروع برمته، بما في ذلك طبيعة علاقته بالدولة والمجتمع، وعلاقته بمكونات أخرى في المشروع الإصلاحي دخل معها في علاقة شراكة استراتيجية (حركة التوحيد والإصلاح) أم أن المشروع أشرف على نهايته واستنفد أغراضه؟
بعض القياديين ذهب بعيداً في قراءته، واعتبر أن نكسة العدالة والتنمية تؤشر على مشروع أطروحة الإسلام السياسي، وأنه آن الأوان للمرور إلى مرحلة ما بعد الإسلام السياسي، وأن طريق ذلك هو القطع مع القيادة التاريخية برمتها، إذ لا حاجة حتى لمرحلة انتقالية يلعب جزء من هذه القيادة دوراً في تجسير الانتقال إلى ما بعد الإسلام السياسي.
لكن في الجوهر تجربة العدالة والتنمية المغربي وتحولاته هي ذاتها التجربة التي كان يستشهد بها آصف بيات، مجترح أطروحة "ما بعد الإسلاموية"، لتأكيد التحول من الإسلاميين إلى ما بعد الإسلام السياسي.
سلوك الدولة تجاه الحزب يثير تساؤلات كبيرة على مستقبل علاقتها بالحزب، وعلاقة الحزب بها، البعض يعتبر أن الإزاحة السياسية التي تعرّض لها الحزب هي تعبير عن تحول استراتيجي في موقف الدولة، والبعض الآخر يرى أن هذا التحول هو نتاج التفاعل مع المحيط الدولي والإقليمي، وما تفرضه التحديات الداخلية، وشروط اقتناص الفرص لتحقيق الإقلاع الاقتصادي، وسط مناخ إقليمي مشوب بالتوتر.
فيما تذهب فئة ثالثة أنه ليس هناك شيء استراتيجي دائم يحكم علاقة الدولة بمكونات الفعل السياسي في المغرب، وأن سلوك الحزب دائماً ما يحدد هذه العلاقة، وأنه بدلاً من الانشغال بتحول موقف الدولة ومزاجها، وجب توجيه السؤال للذات وسلوكها.
الخيارات العملية التي يفكر فيها المجموع الحزبي لا تخرج عن نمط المحافظة، أي تجسير الانتقال بعملية ديمقراطية داخلية (مؤتمر) تفرز قيادة جديدة، ووحدة الصف الداخلي، والتفكير الجدي في إصلاح العلاقات والبنية داخل الحزب.
الأطروحة المحافظة بسيطة وفعالة، فهي تنهي تخلق الوحدة، وتمتص الغضب، وتربط النكسة بالقيادة القديمة وخطها.
لكن، في الجوهر، الأمر يبدو أكثر تعقيداً من هذا التشخيص المحافظ، فالصراع القيادي داخل الحزب تجاوز الخلافات الفكرية والسياسية، بل تجاوز حتى الأبعاد النفسية التي في العادة ما تنشأ بين الأقران في القيادة التاريخية، وصار يعبر عن أزمة ثقة. فهناك من يعتقد بوجود أزمة استقلالية القرار الحزبي، وأن طرفاً ثالثاً مؤثراً سمحت له بعض القيادات بالدخول على الخط، وتكييف مواقفها، فصارت تعبر عن أجندته أكثر مما تعبر عن رؤية الحزب وخطه السياسي.
التشخيص المحافظ سيمضي بالحزب في أقصى تقدير إلى المؤتمر، وبالتحديد إلى لحظة انتخاب الأمين العام، لكن محطة اقتراح الأمين العام الجديد لفريقه (الأمانة العامة)، هي التي سيبرز فيها التشخيص الواقعي، وما إذا كانت القيادة الجديدة ستعمل على مبدأ المصالحة وتأمين ركوب الجميع في سفينة واحدة، أم أنها ستتوجه إلى صناعة قيادة جديدة، تسد بها الطريق على دخول أي طرف ثالث لتكييف رؤية الحزب وقراراته المستقلة.
البعض يعتقد أن التفكير في أطروحة فكرية وسياسية تقدم أجوبة عن القادمة، ينبغي أن يسبق المهمة التنظيمية، لكن توفير شروط هذا النقاش يفترض أن يتم في ظل قيادة تتمتع بالشرعية السياسية، لا قيادة مستقيلة سياسياً، وتتحمل مسؤولية الفشل الانتخابي.
في مسار الحزب السياسي، الأطروحات على تعددها ليست مفيدة عملياً، فالقيادة، إما تكيفها، أو تطلبها، أو تعطلها، وذلك بحسب الحاجيات السياسية.
في فترة ولاية عبد الإله بن كيران التنظيمية، كانت أطروحة "النضال الديمقراطي" (2008) تكيفاً مع تطلعه السياسي لمواجهة "البام"، ثم جاءت لحظة رئاسته للحكومة، فاقتضت التحول من "النضال الديمقراطي" إلى "الشراكة في البناء الديمقراطي" (2011)، أما في الولاية التنظيمية للدكتور سعد الدين العثماني (2017-2021) فاختفى كل ما له علاقة بالديمقراطية، فقط للمحافظة على الشراكة.
واليوم، مع النكسة الانتخابية، يتطلع البعض لعودة أطروحة "النضال الديمقراطي"، لكن بدون فريق نيابي، ولا تدبير جماعي، ولا نقابة تحظى بالتمثيلية، أي بدون أسنان ولا أنياب.
التقدير أن مستقبل "العدالة والتنمية" كما هي العادة، سيكون بيد القيادة التي ستكيفه، حسب أسلوبها، فالتنظيمات المحافظة، التي تخشى دائماً من الانقسام، وتريد أن تحافظ على مشروعها الإصلاحي، وتريد أن تبقى مجتمعة، يكون خيارها الوحيد هو القيادة، التي قد تنقذها أو تزيد في غرقها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.