بينما كان الهدف الرئيسي من إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في مصر، وحفل تدشينها، مسح سوءة النظام، وغسل جرائمه وانتهاكاته المروعة، عبر الكلام الفضفاض، والبروباغندا العتيقة التي تليق بشعوب العالم الثالث، لفتت الاستراتيجية الانتباه أكثر إلى جرائمه، وبدأ الجميع يقارن برويّةٍ بين ما هو مكتوب وما هو واقع، واتفق جميع مراقبي حقوق الإنسان على أن الاستراتيجية لا تحوي رؤية ولا فلسفة ولا ضمانات ولا إجراءات ولا حتى وعوداً، وأنها جثة لا يُرجى من ورائها حياة.
وكالة أنسا الإيطالية للأنباء تذكرت أثناء تغطية تدشين الاستراتيجية قضية مقتل ريجيني، واستنكرت أنها لم تأتِ على ذكره، ولا الباحث المعتقل باتريك جورج زكي.
وأبرزت الوكالة كلمة السيسي الاستجدائية للعواصم الغربية: "من فضلك ضع في اعتبارك أن محاولة فرض نموذج غربي على بلادنا يعتبر نهجاً ديكتاتورياً"!
فيما رأى عدد من المنظمات والحملات بينها كوميتي فور جستس، أن الرئيس السيسي لا يكفّ عن إطلاق التصريحات المتناقضة والعجيبة بشأن حالة حقوق الإنسان في مصر، في محاولة لتحسين صورة مصر المتدهورة بالخارج، وأكدت أن الدولة المصرية لم تعد في حاجة لبناء مزيد من السجون.
وجاء ذلك عقب تصريحات أدلى بها السيسي، مساء الأربعاء 15 سبتمبر/أيلول الجاري، نفى فيها وجود انتهاكات لحقوق الإنسان في مصر، وأعلن أنه سيتم افتتاح أكبر مجمع للسجون خلال أسابيع قليلة، وأنه واحد من 7 أو 8 سجون أخرى… وأن مجمعات السجون تحتوي على مرافق قضائية، ما يُمثل تهديداً جدياً لضمان استقلالية القضاء، ومعايير المحاكمة العادلة والعدالة.
فيما رأى كثيرون، من بينهم ويليام هارتونغ، الباحث في مجال المساعدة الأمنية في مركز السياسة الدولية، أن قرار إدارة بايدن فرض شروط على حصة تبلغ "130 مليون دولار" من المبلغ 300 مليون دولار، من المساعدات العسكرية، كان "غير كافٍ ومخيباً للآمال".
وأضاف أن "نظام السيسي هو الأكثر قمعاً في تاريخ مصر"، ويجب أن تُقابَل حملته القمعية ضد المدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء الديمقراطية بإجراءات أقوى"، بحسب صحيفة واشنطن بوست.
تناقضات الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان
نعود إلى الاستراتيجية التي تُقسم إلى 4 محاور رئيسية، والتي يظهر للوهلة الأولى أنها تمتلئ بالمتناقضات والعموميات، وتطرح توصيات مثالية، وكأن يد الدولة مغلولة عن تطبيقها وتحويلها إلى أمر واقع، وكأنها تحتاج إذناً بذلك!!
منها ما ذكرته في التمهيد، من أن مصر تتقدم بخطى واثقة نحو بناء مستقبل يليق بمكانتها، وبطموحات شعبها الذي قام بثورتين في عامي 2011 و2013، مطالباً بالإصلاح، وإعلاء قيم الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، في تناقُض صريح مع كلمة الرئيس السيسي، التي هاجم فيها ثورة 2011 بضراوة، واعتبر أنها كانت تقصد هدم الدولة، وذهب إلى أبعد من ذلك بوصفها "بشهادة وفاتها".
كما شدّدت الاستراتيجية على وجود الإرادة السياسية العازمة على تنفيذ ما جاء بها… لكن المعلقين اتفقوا بما يشبه الإجماع، على أن نقطة ضعف الاستراتيجية، عدم توافر الإرادة السياسية لتعزيز الحد الأدنى من قيم ومبادئ حقوق الإنسان التي نادت بها وأكدت عليها.
وذكرت أن تعزيز حماية حقوق الإنسان هي عملية مستمرة ومتجددة وتراكمية الأثر، ولا تظهر نتائجها إلا بشكل متدرج، وأنها تستند على الضمانات الدستورية، والالتزامات الدولية والإقليمية لمصر، حيث انضمت مصر لثماني اتفاقيات دولية أساسية لحقوق الإنسان!
ومن المتناقضات ما أشارت إليه في المبادئ الأساسية، من أن حقوق الإنسان لا تقبل تعطيلاً ولا انتقاصاً! بمعنى أنها لا تقبل تدرجاً في التطبيق كما جاء في النقطة السالفة الذكر.
وأشارت إلى أن العديد من الممارسات التي تشكل انتهاكات لحقوق الإنسان ترجع إلى ضعف ثقافة حقوق الإنسان! وأن منطلق وأساس المشكلة هو "الضعف الملحوظ في الوعي القانوني لدى غالبية المواطنين".
علماً أن الاستراتيجية لم تتصدَّ من قريب أو بعيد لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر:
- كلمة التعذيب لم تُذكر فيها إلا مرتين فقط، مرة في إطار كفالة الدستور بأن التعذيب بجميع صورة لا يسقط بالتقادم، والمرة الثانية استمرار مناهضة التعذيب بجميع أشكاله، وكأن هناك بالأساس مناهضة لتلك الجريمة، أو أن القائم به دولة أخرى، ونظام آخر.
- لا وجود لجريمة الاختفاء القسري في الوثيقة ولو من حيث الذكر.
- لا وجود للحديث حول جريمة القتل خارج إطار القانون.
- ذكرت جريمة الإعدام في ثلاثة مواضع في إطار مراجعة الجرائم الأشد خطورة، التي توقع عقوبة الإعدام، دون الحديث أو التطرق إلى إيقاف تلك العقوبة حتي لحين تلك المراجعة.
وزعمت الاستراتيجية أن مصر تحرص على تنفيذ التزاماتها الدولية والإقليمية، وأنها قبلت 87,37% من التوصيات التي تلقتها في إطار الجولة الثالثة لآلية الاستعراض الدوري الشامل التابعة لمجلس حقوق الإنسان.
الانتهاكات في 2020 بالأرقام:
كان التقرير السنوي "المصريون بين جائحتي كورونا والقمع" قد رصد الانتهاكات في 2020، التي جاءت كما يلي:
مجموع الانتهاكات: 13261 انتهاكاً.
- الحرمان من الحرية قسراً لـ7843.
- الانتهاكات في القضايا ذات الطابع السياسي (12733) انتهاكاً.
- سوء أوضاع الاحتجاز لـ3233.
- الاختفاء القسري لـ1917.
- التعذيب لـ167.
- الوفاة داخل مقارّ الاحتجاز لـ101.
- سجّلت القاهرة وحدها نحو 58% من إجمالي الانتهاكات المرصودة (7648/13261).
- وقوع 555 انتهاكاً بحق الإناث.
وفيات السجون
كما زعمت الاستراتيجية أن الدولة توسّعت في الرعاية الطبية عن طريق توفير مستشفى محلي بكل سجن، رغم تزايُد أعداد الوفيات بسبب الإهمال الطبي، وإساءة المعاملة، فبحسب كوميتي فور جستس جاءت الوفيات في السجون منذ 2013 حتى الآن على النحو التالي:
- 2013: 85 سجيناً.
- 2014: 183 سجيناً.
- 2015: 217 سجيناً.
- 2016: 129 سجيناً.
- 2017: 146 سجيناً.
- 2018 :108 سجناء.
- 2019 : 90 سجيناً، بينهم 11 حالة انتحار.
- 2020 : 101 سجين.
- 2021: 34 سجيناً حتى تاريخه.
حتى إن أحد السجناء ويدعى "صالح بدوي" مات ودفن في 16 مارس/آذار، دون إبلاغ أهله، الذين لم يعلموا بالواقعة إلا بعد مرور 5 أشهر كاملة على حدوثها.
كما أكدت الاستراتيجية على بعض المُسلّمات، منها:
- الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب.
- ضرورة الإبلاغ الفوري لكل من تقيد حريته بأسباب تقييد الحرية.
وكلها بنود تتناقض مع مواد قانون الطوارئ، أو حتى مع الأوضاع القانونية في مرحلة ما قبل تطبيقه.
وإلا كيف اعتقل 60 ألف شخص على مدار 8 سنوات في قضايا ذات طابع سياسي؟!
كما جاءت نظرة الاستراتيجية إلى قضية الحبس الاحتياطي المطول مخيبة للآمال، فهي لم تعِد بتقييده، وإنما إلى تعميم مشروع يتيح للقاضي الاتصال مباشرة بالمتهم بحضور محاميه، عبر دائرة تلفزيونية مغلقة ومؤمَّنة، وكأن هذه هي الأزمة، وليست الحبس بداهةً، فكثير من المتهمين يُجدد لهم بدون أن يعرضوا على القاضي، رغم وجودهم على بعد خطوات منه، وإذا حضروا لا يُسمع لهم.
حق التعبير والتصوير
وأعادت الاستراتيجية التأكيد على بعض الحقوق التي يكفلها الدستور مثل:
- حق الفرد في التعبير بالقول، أو الكتابة، أو التصوير.
- حرية الصحافة والإعلام والطباعة والنشر.
- حق تنظيم الاجتماعات العامة، والمواكب والتظاهرات، وكافة أشكال الاحتجاجات السلمية، وذلك بإخطار ينظمه القانون.
وكلها حقوق أدى التمسك بها إلى اعتقال آلاف المواطنين والصحفيين والمدوّنين، على مدار سنوات.
المجتمع المدني
ذُكر اسم المجتمع المدني في الوثيقة في 15 موضعاً، جاءت كلها للعمل على تعزيز التواصل والحاجة إلى التواصل بين الحكومة وبين المجتمع المدني، أما الشيء الوحيد الذي طالبت به الدولة للمجتمع المدني فهو زيادة المنظمات التي تعمل على سلامة الأغذية وحماية المستهلك، في اجتزاء مُخل بأدواره وواجباته!
فيما ذكرت الوثيقة الإرهاب في 18 موضعاً في محاولة لغسل ما ترتكبه الدولة من جرائم بزعم مكافحة الإرهاب والجماعات الإرهابية.
مناشدات دولية
لم تعتمد الحكومة ولو جزءاً قليلاً من توصيات 31 دولة من دول العالم في مارس/آذار الماضي.
وكانت 31 دولة أصدرت بياناً مشتركاً، في 12 مارس/آذار 2021، حثّت فيه مصر على الكفّ عن محاكمة النشطاء بموجب قوانين مكافحة الإرهاب، وطالبت بإطلاق سراحهم دون قيد أو شرط.
وفي يونيو/حزيران الماضي، طالبت 63 منظمة حقوقية محلية ودولية- في بيان- السلطات المصرية باتخاذ إجراءات فورية لإنهاء ما وصفته بـ"حملة القمع الشاملة"، التي يشنها النظام ضد كافة أشكال المعارضة السلمية، لكنه لم يتوقف.
تمخَّض النظام فَوَلد استراتيجية
في النهاية تمخَّض الجبل فولد فأراً، وتمخض النظام المصري فولد استراتيجية جوفاء.
ولم يقدم النظام للمستائين والطامحين والحالمين إلا استراتيجية استغرق إعدادها أشهراً طويلة، أُزهق خلالها المزيد من الأرواح بالإهمال الطبي الفاحش، وتضاعفت معاناة المعتقلين وأُسرهم، مع وعود ببناء المزيد من السجون، لا إخلائها.
وإلا ما الفارق بين تلك الاستراتيجية وما قدمته مصر من توصيات للأمم المتحدة في الاستعراض الدوري الشامل، وما الفارق بينها وكلمة الوزير عمر مروان في مجلس حقوق الإنسان في العام 2019؟ لا شيء!
في تعليقه عليها قال أحد المغردين إنها مجرد رقصة يخلع فيها النظام استبداده قطعة قطعة، ما يؤشر على ما يبدو لقوة الانتقادات الخارجية لسجله المروع في مجال الحقوق والحريات.
ربما يبدو الانتقاد صحيحاً، لكنه لم يكن قوياً، فيما يظل ملف حقوق الإنسان، والقتل خارج إطار القانون والإعدامات، والمعتقلين يراوح مكانه، بلا أدنى تغيير ولا أمل، حتى وصل الحال بشاب مثل علاء عبد الفتاح أن يهدد بالانتحار، ما دام يظل عرضة للانتهاكات من قِبل مسؤولي سجن شديد الحراسة، المعروفة أسماؤهم وصفاتهم، ومن يحرضهم ومن أطلق يدهم وتكفل بحمايتهم في جمهورية التوحش القديمة والجديدة.
والأكيد في رأيي أن مداخلة الرئيس السيسي مع الإعلامي يوسف الحسيني هي الصورة الأكثر وضوحاً للاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، ورؤيته وفلسفته التي لا تعترف بارتكاب انتهاكات من الأساس، وترتكز على بناء المزيد من السجون، حتى إنه بشّر الولايات المتحدة الأمريكية التي سمحت له بالمزيد من المعونات العسكرية والقروض- مؤخراً- ببناء مزيد من السجون على النظام الأمريكي، وكأنه يهدم الاستراتيجية برمتها، ويواريها الثرى.
وبحسب أحد المواقع الإسرائيلية:
يسع السجن 40 ألف سجين.
به 200 برج مراقبة.
نعود ونكرر، لا يبدو أن النظام يملك الحد الأدنى من الحس الإنساني، ولا إرادة الحلحلة للقمع والانتهاكات، وفي تلك الحالة لن تخلو فرص التغيير أو محاولات إعادة الأوضاع إلى نصابها من مخاطر وأزمات وربما كوارث.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.