يوم السبت الماضي الموافق الـ11 من سبتمبر/أيلول، وقفت الدولة المصرية على قدم، كما يقال في المجاز الشائع باللهجة الدارجة، من أجل الاحتفاء والترويج لوثيقة جديدة ضخمة تحت مسمى "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان"، وذلك بحضور من يمثل معادلاً موضوعياً لحزمة من المعاني والمفاهيم في السياق المصريّ، الرئيس والأبّ والجيش وحامي الدين والاستقرار ومحارب الإرهاب ومجهض المؤامرات الخارجية، عبد الفتاح السيسي.
إلى جانب الزخم المصطنع من النظام الحاكم في مصر، كان هناك زخم مواز، وإن اختلف مضمونه على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الأجنبية، للتندُّر على هذا الحدث، فالسيسي وحقوق الإنسان.. كيف يجتمعان؟
فقبل ساعاتٍ من تدشين هذا المؤتمر وإعلان هذه الوثيقة، نشرت وكالات عالمية ومواقع حقوقية تقريراً جديداً موثقاً بالتواريخ والصور والأسماء، يفيد باستمرار تغول أجهزة إنفاذ القانون في مصر على حقوق المعارضين، وبالأخص الإسلاميين، بشتى أنواع التغوّل وصولاً إلى القتل.. فهل تاب النظام المصري فجأة؟
سرُّ التوقيت
ثلاثة أسباب دفعت النظام المصريَّ إلى استحداث هذا الحشد المفتعل في هذا التوقيت، الأول، هو مرور عام بالتمام والكمال على ولاية الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الذي قال قبل ذلك إن أسلوب تعامله مع "الديكتاتور المصريّ" سيكون مختلفاً عن الأسلوب الناعم الذي اتسمت به حقبة سلفه دونالد ترامب.
يعني مرور عام كامل من الفترة الأولى لولاية بايدن أنَّ الإدارة الجديدة والفريق الجديد قاما بإعادة دراسة وترتيب الأوراق الداخلية والخارجية بشكل مقبول، بما في ذلك الاقتصاد والسياسات الصحية، والوعود الانتخابية، والتي يندرج ضمنها إعادة النظر في الموقف من النظام في مصر.
كما هو معلوم، وكما أوضح الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في كتابه الأخير الذي وثق فصولاً معتبرة من حقبتي رئاسته للولايات المتحدة؛ فإنَّ واشنطن، لأسباب كثيرة، براغماتية وإجرائية، لا يمكنها إحداث تغييرات جذرية في سلوك نظام أحد أبرز حلفائها في المنطقة، ولكن بمقدورها، في نفس الوقت، الضغط عليه وإزعاجه لتقديم بعض التنازلات الشكلية، التي قد تفيد في نزع فتيل الانفجارات قليلاً، وهو ذروة ما يرتجى من الرئيس بايدن في هذا الباب، وهو ما يعلمه السيسي، الذي هرول للتعاقد مع شركة علاقات عامة خارجية جديدة لتحسين صورة نظامه في واشنطن بعد ساعات قليلة من فوز بايدن.
السبب الثاني، أنّ الوثيقة تأتي بالتزامن مع استعداد النظام في مصر لتدشين حقبة ما قرر السيسي أن يطلق عليها "الجمهورية الجديدة"، وهو مركب وصفيٌّ مستعارٌ من الرياض حليفة السيسي في الخليج، التي أطلق إعلامها الرسمي على حقبة تولي محمد بن سلمان ولايةَ العهد رسمياً، والحكمَ بشكل ضمني، في البلاد: "الدولة السعودية الجديدة"، بالإضافة إلى تصورات السيسي عن انتهاء دولة ما قبل يناير/كانون الثاني 2011 التي خضعت أمام الجماهير سريعاً لصالح دول أخرى أكثر تماسكاً هي دولة الثالث من يوليو/تموز، والتي لا تستطيع أي كتلة اجتماعية الوقوف أمامها.
في مخيال السيسي، فإن الدولة الجديدة، كما صممها خلال الأعوام السبعة الأخيرة، تقوم على عدة أعمدة، أو كلمات مفتاحيّة يمكن من خلالها تلخيص وجهة نظره في الحكم: الديون، والمشروعات القومية العملاقة، والتفرُّد بالحكم (أن يصبح للدولة "رأس" بتعبير السيسي)، وهيمنة الجيش على كافة تفاصيل الحياة، وقدرة أكبر للدولة على توفير الخدمات العامة للمواطنين دون أي دعم، والتركيز على قطاعي المقاولات والطاقة دون غيرهما من القطاعات، والعداء الجذريّ لكلّ تمظهرات الإسلام السياسيّ، والقضاء على معظم مشكلات عصر مبارك (المرور، العشوائيات، انقطاع الكهرباء، القمامة) في أسرع وقت وبأيّ ثمن، وتبني سياسات خارجية أكثر تقارباً من إسرائيل، وتقريب ثلة منتقاة من رجال الأعمال إلى دوائر الحكم، وإعادة هيكلة الجهاز الإداري، بما في ذلك الانتقال إلى العاصمة الإدارية.
المهم، أن تلك الجمهورية الجديدة، ولو رغماً عن إرادة السيسي؛ فإنها تحتاج إلى بعض الترقيعات، أو حبات الكريز فوق الكعكة، باستعارةٍ من حقل الحلوى والمأكولات الترفيهية. شيء هو بمثابة ذرّ للرماد في العيون، حتى لا يقال إنّ الجمهورية الجديدة ينقصها شيء، عيب، الناس برا تقول علينا إيه؟
وقد بدأ النظام بالفعل، في الفترة الأخيرة، استدعاء بعض الوجوه القديمة، لإعادة لعب دور معين في الداخل، دور المعارض المأمون والأليف الخاضع للسيطرة والقابل للتوقع، بالتزامن مع الإفراج عن بعض الوجوه المعارضة، التي تحظى باهتمام غربيّ، من الصفين الثاني والثالث، بعد ما أنهكتها سنوات السجن وظروفه القاسية في السنوات الماضية.
حقوق الإنسان السيساويَّة
السيسي ليس شخصاً عادياً. هو، كما وصف نفسه، طبيب وفيلسوف يجد مخرجاً لكلّ مشكلة. والمشكلة، أنَّ حقوق الإنسان بالمفهوم الغربيّ دون توسع في التعريفات الأكاديمية، تعني، في الوقت الحالي، مزيداً من الحريات الشخصية الليبرالية، بما في ذلك العلاقات العاطفية بين أبناء الجنس الواحد والعبور الجنسي والمساواة بين الجنسين، وهي التي إن سمح بها السيسي سوف تؤلب ضده المجتمع المحافظ وستجعل للإسلاميين حجةً عليه، وهو الذي اعتاد اللعب على كونه ينازعهم، أي الإسلاميين، على التدين، ويحمي منهم الدين، لا أن يحارب الدين نفسه.
بالإضافة إلى أنّ هذا النمط من الحريات الشخصية عادةً ما يتجاور، أو يُطمِّعُ، إن جاز القول، في نمط حرياتٍ آخر، هو الطرف الثاني في معادلة حقوق الإنسان الغربية، وهي الحريات السياسية، في الصحافة والمجتمع المدني والأحزاب ذات التوجهات الليبرالية، وبالأخصّ اليساريَّة، وهو ما ينظر إليه السيسي ونظامه بعين الريبة، إذ لا ينسى أنَّ تلك الفئة من الشباب المتحمس لهذه القيم كان لها دور معتبر في ثورة يناير، التي يراها السيسي نكسةً لا يجب أن يسمح بتكرارها مهما كلفه ذلك من ثمن.
الحلُّ، في المعجم السيساويّ الفريد، هو ترويج مقولة إنّ مجتمعاتنا، باعتبارها مجتمعاتٍ محافظة ثقافياً واجتماعياً، أقلّ وعياً من الناحية السياسية، في منطقةٍ ملتهبة أمنياً، لا تصلح لها منظومة حقوق الإنسان الغربية. ردد السيسي تلك المقولة مراراً أمام الوفود الأوروبية في شرم الشيخ، وبجانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس، وفي نفس المناسبة التي أعلن فيها تلك الوثيقة الأخيرة.
ومع ذلك؛ فإنَّ البديل الذي تفتق إليه ذهن السيسي من أجل لجم الأصوات الغربية المطالبة بتطبيق حقوق الإنسان بمفهومها العالميّ في مصر، هو الجدل بأنه يقوم بالفعل بتطبيق حقوق الإنسان بمفهومها الذي يليق مع تجربتنا، التي تفتقد لأدنى مقومات الحياة، كالحقِّ في السكن. يبني السيسي آلاف الوحدات السكنية لكلّ الفئات. والحقّ في الحياة والأمن، بعيداً عن أخطار الإرهاب الذي يعرفه الغرب جيداً، وتطوير الريف. فمشروعات السيسي منتقاة، في أحد معاييرها، على التناغم مع المفهوم الجديد لسيادته عن حقوق الإنسان. نزيل العشوائيات، ونطور الريف.. نعمل إيه تاني أكتر من كده؟!
وكـ"بقشيش"، يقدم برامج تمييز إيجابي لكلِّ الفئات، وفقاً لتقسيم جنسانيّ وعمريّ وفئويّ وطائفيّ، كتوسيع مشاركة "المرأة" في الحكومة والبرلمان الذي يختار أعضاءهما بنفسه تقريباً، واستحداث مؤسسات جديدة لرعاية "ذوي الهمم"، وبرامج حكومية لتأهيل "الشباب" للعمل التنفيذيّ في الحكومة، والتوسع في تقنين وبناء الكنائس "للمسيحيين"، وتوسيع دور "المجتمع المدني" للانخراط في المشروعات التي تنفذها الحكومة. هذا منتهى ما يستطيع السيسي تقديمه في هذا الباب.
أما عن الحريات السياسية والنقابية والإعلامية الحقيقية، والتي تتماسّ مع الحريات الاجتماعية والثقافية في "الباكيدچ" الغربي، فإنها، كما نعلم، وفقاً لما يروجه السيسي، ستؤدي في مجتمع بدائيّ كالمجتمع المصريّ، إما إلى عودة الإسلاميين، الذين يهددون الغرب وإسرائيل والمسيحيين ولا يؤمنون بالمواطنة وحرية المعتقد كما يصورهم، أو إلى الفوضى الناتجة عن تصدر الشباب الأرعن الذي لا يمتلك أي برامج عملية تصلح للتطبيق كما وصفهم السيسي في إحدى الندوات التثقيفية للقوات المسلحة، أو إلى الاحتراب الذي لا يمكن كبحه بين الفريقين، وهو ما منعته دولة الـ3 من يوليو/تموز 2013، وفقاً لسرديَّة السيسي.
أين الإسلاميون؟
يتساءل البعض: أين الإسلاميون من تلك المعادلة؟ هل من الممكن أن تتحسن أحوالهم قليلاً في ظلّ هذا الزخم بملفّ حقوق الإنسان؟ والإجابة الواضحة: مع الأسف، لا.
ففي نفس تلك المناسبة، أعاد السيسي التعريضَ بجماعة الإخوان المسلمين، في حديثه عن الـ90 عاماً التي سيطر خلالها فكرٌ محافظ معين على المجتمع المصريّ، وهو ما حدث أيضاً في كلمته الأخيرة في استاد القاهرة خلال إطلاق مشروع "حياة كريمة" لتطوير الريف.
بالنسبة للسيسي، بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، ثم انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، فإنه لا مكان للإسلام الجماعيّ، أو الحركيّ، أو الإسلامويّة كما يقول مترجمو الكتابات الثقافية الغربية بتحريفٍ صرفيّ للإشارة إلى الإسلام السياسي السنيّ ذي القيم المحافظة، إلا في المقابر أو في السجن، أو في البيت، حال اعتزال الشخص للحركيَّة.
وجهة النظر تلك لم تتغير من خطاب السيسي قطّ، بما في ذلك ادعاؤه الأخير بإمكان التعايش مع من يحمل ذلك المعتقد المحافظ الذي تغلغل في المجتمع خلال الـ90 عاماً الماضية، فالشرطُ الرئيسي الذي يضعه السيسي، لمن لا يفهم لغته وخطابه، من أجل هذا التعايش، أو بمعنى آخر، أن تتركك الدولة المصرية دون أن ترحلك على المقابر أو على السجن، هو أن تكون مسالماً، وهو، ما يعني عند السيسي، أن تتجردَ من أي انتماء تنظيمي، تماماً، وأن تحمل معتقدك في قلبك، دونما أي محاولة للدعوة إليه، فضلاً عن التفكير في التغيير السياسي مجدداً.
في الفترة الأخيرة، دشن السيسي مزيداً من القوانين من أجل عزل أيِّ كوادر يشتبه في أنّ لها انتماءاتٍ تنظيمية إسلامية سابقة من دواوين العمل الحكومية، كما شنّ وزراؤه في حقائب النقل والتعليم هجوماً على "الكوادر الإخوانية" التي تعطل مصالح الدولة في مواقعها، وذلك، في استمرار لسياسة العزل والإقصاء والنبذ المجتمعيّ وقطع الأرزاق التي بدأت من 7 أعوام، كما أصدر القضاء، والكلّ يعرف في مصر كيف يتلقى القضاء الأوامر من الأجهزة الأمنية، أحكاماً نهائية بإعدام قيادات الصف الأول من الإسلاميين، وأعلن السيسي أنّ نظامه يستعدّ إلى جولة جديدة من "الدراما المحاربة للتطرف".
كلّ جماعات الإسلام السياسيّ -عدا تلك المتحالفة مع النظام والمنكفية على العمل الدعويّ (الأخلاق والآداب والحفاظ على الاستقرار) والتي تستخدم لضرب الإسلام السياسيّ نفسه كالصوفيّة المصريَّة والمدخليّة وسلفية الإسكندرية- كلها ولدت من رحم الإخوان المسلمين، سواء كانت تهدف إلى التغيير السياسي السلمي أو غير السلمي بالنسبة للسيسي، وبالتالي فإنه لا مكان للإسلاميين بأيّ شكل في الجمهورية الجديدة، وبالأخصّ وهو يعلم تماماً، أن بينهم وبينه "ثأراً" بائتاً يتحين بعضهم الوقت المناسب من أجل الوفاء به، على حدّ قوله في أكثر من مناسبة.
وبالنسبة لأمريكا والغرب، فالإسلاميونَ بطوائفهم في درجة أقلّ أهمية من النشطاء والحقوقيين والمجتمع المدني، ووفقاً للحوار الأخير الذي أدلى به أحد الوسطاء بين الأجهزة السيادية المصرية والدوائر الغربية في ملف تحسين حقوق الإنسان لموقع "مدى مصر"، فإنهم -الإسلاميين- غير موضوعين، أصلاً، على أي أجندة حوارية تخصّ هذا الملف. والأمر كله برمته ما هو إلا محاولة لتجميل نظام السيسي ببعض المساحيق التي يسمح بها وضعه الداخلي تفاعلاً مع الضغوط الخارجية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.