هذه الأمة لا بد لها أن تأخد دروساً في التخريب، جملة قالها مظفر النواب، أردت اقتباسها قبل أن أقدم استفساراتي وأسئلتي واعتراضاتي على متحدث لا أتذكر في أي موقع سلطة يجلس، أعتقد أنه من مسؤولي وزارة الشباب والرياضة، جاء بصحبة عضو مجلس الشيوخ عن محافظة الدقهلية.
جلست أستمع لحديثه في حالة نفسية يرثى لها، ليس بسببه، لكن كلامه زاد حنقي وأخرجني عن ثباتي فكنت أتلوّى على الكرسي كثعبان أضناه الألم، إن التصفيق الحار الذي حصل عليه من طلاب الثانوية العامة الذين أتوا للاستماع لنصائح تفيدهم في حياتهم الجامعية يعكس خللاً واضحاً في قدرة هؤلاء على التفكير النقدي واستخلاص أهداف وأغراض الخطاب الموجه لهم. على أي حال لا أظن أحداً منهم استفاد، وقد تكون أقصى استفادة هي تعلم الصبر بالجلوس لسماع هذا الهراء الطنان، الذي يصلح لخطب رثاء الموتى أمام القبور، خطب رنانة لا تثمن ولا تغني، بل تثير التقزز في نفوس أهل الميت.
الرجل الذي نسيت اسمه تحدث بنبرة قائد سرية يتوجه لملاقة عدوه بشجاعة لا يضاهيها شيء، يخبرنا بأنه على الشباب اليوم المساهمة في العمل السياسي، وأن يتحدثوا لصالح خدمة الوطن، وعَدد بعض الأشياء التي يراها إيجابية كمؤتمرات الشباب التي لا يتكلم فيها الشباب، بل يكتفون بالإنصات للصوت الرقيق الذي يراعيهم في تلك القاعة، ويخفي في مكان لا تدركه الشمس شباباً فتحوا في عمق اليأس شرارة أمل، شباب الثورة.
لا عجب أن محدثنا قال إننا لا نريد العودة مرةً أخرى إلى عام 2011، فهؤلاء لا يعجبهم أن تتحدث، بل يريدون إلقامك السم بالمعلقة مبتسمين سعداء، لن تلاحظ أنياب الضباع في أفواهم وهم ينتظرون بيعك في مزاد الجوع والعبودية، حيث يستكين الإنسان ولا يتحدث إلا إن أمسك طبلة يهز على إيقاعها خصر الوطن. هؤلاء الأكثر حديثاً عن الوطن لا يعرفون شيئاً عن معنى أن تحمل وطنك فيك وأنت منبوذ ومنفي فيه. صدقني فأنا لا أرتدي قناعاً أخطابك من خلفه، أنت ستقبض ثمن بيع هؤلاء الطلبة في مزادات السلطة.
لماذا كدت أفقد أعصابي؟
كلفني صمتي انهياري تماماً بالصراخ في وجه صديقي عند الرحيل، كانت كل أحداث اليوم تتكاتف عليّ معلنة أني لن أرحل إلا قبل ارتكاب جريمة أو أصرخ بجنون "هراء، كل هذا لا يعني شيئاً، اذهبوا، اقرأوا كتباً، فالدولة لن تقدم لكم مناقشات فكرية تستحق الاستماع إليها".
أنتم في هذا الزمن الخرب لا تملكون وقتاً للتفكير في تصرفاتكم من الأساس، فكيف لكم أن تضيعوا الوقت مع سَرقة الأدمغة. عزيزي إن ثورة يناير هي الرحم الذي خرج منه وعيي أنا والكثيرون غيري، فأرجوك لو أردت مساعدة هذا الوطن، أخبر الشباب عن تلك الثورة. وإن قامت ضدك وفعلاً تحب الوطن فلا تأتي بذكرها على لسانك أكرم لك في أعيننا.
إن الجيل الذي أنتمي إليه يقف الآن في منتصف العشرينيات، لم يكن كبيراً لكي يساهم في الجدل السياسي حينها، لم يكن قادراً على طرح رؤى مختلفة، ولم يستطع تفجير الثوابت راسخة الأركان وجعلها إشكالية، لكنه تعلّم أن يتكلم متى أراد ذلك، حين كانت الآلهة نفسها لا تستطيع الوقوف أمام أجساد تفجرت فيها الحرية، على حد تعبير سارتر.
نما مع الإضرابات وعدم الاستقرار قدرة ذاتية على فلترة الأحداث وتعلم ألاعيب الحقيقة، فالمستفيد الأول من الفوضى هو الفكر، نحن أبناء تلك الثورة، لا يجب علينا ابتلاع ألسنتنا في وجه المخادعين، نحن من نحمل في داخلنا يأس الثورة نخرجه في مقال أو عمل فني أو لوحة أو كلمة بسيطة، تعبر عن حنقنا وغضبنا من الحرية التي سلبت منا، كلمة تعوضنا عن آثار الهزيمة على أجسادنا، كلمة صادقة نقدمها للوطن الذي نعرف معناه أكثر من أي أحد.
بعد أن أنهى خطابه السائل حصل على شهادة تقدير، وبلفتة مسرحية تليق على العرض القائم وضعها سريعاً فوق رأسه، دلالة على انحنائه وتواضعه، لا بل دلالة على النفاق الأصيل.
كانت أسئلتي بسيطة: ما الآليات التي توفرها الدولة لكي يكتسب هؤلاء الشباب وعياً سياسياً حقيقياً، وليس مجرد شعارت نرددها؟ ما الفاعليات التي يمكن لهؤلاء الشباب القيام بها؟ هل ستأتي الدولة بمعارض يساري يشرح في الجامعة مثلاً الماركسية أو الاشتراكية، يناقش أسباب تراكم الفقر المادي والفكري؟ ووضع المساجين؟ وبيع آخر ما تبقى من اقتصادنا القومي؟ هل ستسمح الدولة بحركات طلابية ذات أيديولوجيا سياسية أو أهداف اجتماعية واضحة تقف في وجه ممارسات السلطة؟ هل سيسمح لنا بإقامة جنازة كل عام على بيع جزء من أرضنا ما زال يحمل رائحة الدم، رائحة تشبه تلك التي على ملابسي من صديقي الذي جرحت عقله بثرثرتك، ونثرت دماءه، حتى أصبحنا لا نستطيع التفريق بين القاتل والمشاهد المنهزم.
هناك أسباب كثيرة فجرت الغيرة في نفسي، فأردت التكلم حتى لا يختنق صوتي في حلقي. رحلت يومها دون أن أسأل أو أقول ما أريد، لأنني انهرت تماماً عند نهاية اليوم، وكدت أتسمم من الكذب، أريد التفكير كطائر يتعلم الطيران، بأقصى ما يمكن من الجرأة في اختراق حدود الممنوع والمقدس، أريد التفكير لكن هل تضمن لي أن المخبر على بابي لن يأخذني إلى، حيث يضيع شبابي الذي تبيعه رخيصاً في قاعات الألقاب الوهمية.
هل يمكن لأحد مثلي لم يتحكم في أعصابه بسبب تراكم أسباب اليأس أن يقف ويعطي لهؤلاء الأطفال درساً موجزاً في التخريب؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.