إن التطلع إلى مباراة مثيرة وجميلة من مباريات كرة القدم حلم يمكن الاستغناء عنه، إذا قسنا هذا التطلع بما يحتاج إليه المجتمع من إصلاح، ولكن في نفس الوقت كرة القدم هي الفرصة الوحيدة للعديد من الناس للاتصال بالجماليات، وربما كانت مباريات كرة القدم من الكماليات التي لا بد منها للإنسان، على حد قول الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيجا.
إن محاولة سوسيولوجية وسيكولوجية لدراسة ظاهرة الجمهرة دائماً ما تعوقها فرضية التعميم، ولذلك تنطلق الدراسات من فرضية أن الأغلبية تتقاسم سمات معينة بإمكانها أن تساعد في تحليل الظواهر وتعميمها، ولذلك في هذا المقال سننحو منحى تعميمياً مع علمنا بوجود فئات تختلف عن التيار العمومي لظاهرة الجمهرة في مصر، ولكن آفات الجمهرة هي التي أصبحت تسيطر على حالة التشجيع في كرة القدم المصرية، حتى عادت حالة التغييب مرة أخرى.
إن المأزق الذي تعاني منه الكرة المصرية الآن ليس وليد هذا الموسم، ولا نتيجة طبيعية لهدف "أفشة" في نهائي القرن الإفريقي الذي جمع الأهلي والزمالك، ولكنه نتاج سنوات من التدرج في إعادة المشهد الكروي لتصدر المشهد العام مرة أخرى، لنصل إلى المحطة الهامة في وجود الشخصيتين الأكثر إثارة للجدل؛ من الزمالك والأهلي على التوالي، شيكابالا وسيد عبد الحفيظ، وظهورهما في لقاءات إعلامية في برامج سياسية عبر المنافذ الإعلامية التي تتبنى أجندة الدولة تبنياً كاملاً، مع الوجهين الإعلاميين الأبرز عمرو أديب وأحمد موسى. هكذا تصبح المنابر الحكومية مكاناً تنطلق منه التصريحات الخالية من الدبلوماسية، الاستفزازية، العدوانية في بعض الأحيان. ويكتمل المشهد العبثي المخطط له بعناية بمحاولة الدولة لعب الدور الأبوي المعتاد ممثلة في مستشار الرئيس الديني "أسامة الأزهري"، ليدعو فرقاء المشهد الكروي إلى جلسة صلح داخل مسجد "الفتاح العليم" تحت عنوان القضاء على التعصب.
الجمهرة: بين الفطرة والتدجين
يفرّق الكاتب والمؤلف البلغاري إلياس كانيتي بين أنواع الجماهير، فهناك جماهير الاحتفال وهي تعداد من الناس يتمتعون معاً في حالة من الابتهاج والانفعال الشديد، وهناك جماهير التحريض، وفي حالة الذعر تطل جماهير الهرب برأسها، وحشد المتفرجين في ملاعب كرة القدم هو جمهور احتفال وجمهور تحريض في نفس الوقت. الجماهير تريد التمتع وإطلاق الآهات من فرط الجمال، وهي في ذلك تقع تحت تصنيف "جمهرة الاحتفال"، لكنها إذا غضبت حرّضت وطفحت منها البذاءة والعدوانية، وحينها يصح إدراجها تحت بند "جمهرة التحريض".
لذلك الأوصاف التي تلاحق اللاعب العنيف على أرضية الملعب تكون من قبيل "قاتل"، "سفاح"، "مجرم" إلخ… وهي تنبع من رغبة أصلية في التحريض، ولذلك لا نتعجب حينما يتدخل البوليس في العديد من المباريات لحماية اللاعبين أو الحكام أو الفريق الخصم.
إن كل مباراة تُشكل للمتفرجين أساساً ومحاولة لخلق المعنى والرمز الذي يعبر عن هويتهم، على الأقل الكروية، ويتشكل هنا شعور الانتماء كما في ظروف أخرى يشكل علاقة معارضة حادة بشكل أو بآخر مع المنافس.
وفي كرة القدم، يعد شكل تنظيمها الحالي أرضية مثلى لتأكيد الهويات الجماعية وما ينافسها من هويات محلية أو إقليمية، من خلال هذه القدرة على الحشد وإعطاء المثل على الانتماء من خلال روح الفريق، وروح الجماهير من خلفه وهي تؤازره.
عندما تحضر الجماهير تتراجع النزعة الفردية، لذلك يصفها عالم النفس الأشهر على الإطلاق سيغموند فرويد، بأنها عشيرة بدائية، يوجهها فرد لديه قوة خارقة للمألوف ومسيطر على جمع من الرفقاء المتعادلين- ما يحدث حالياً مع شيكابالا وسيد عبد الحفيظ- وتتطابق سيكولوجيا هذا الجمهور حيث زالت شخوصهم الواعية، وتوجهت أفكار الجميع وعواطفهم في اتجاه واحد أوحد، وغلبة العاطفة والحياة النفسية اللاواعية، والميل للتحقيق المباشر للمقاصد والنيات فور انبجاسها، فكما أن الإنسان البدائي لا يزال على قيد الحياة في كل فرد، كذلك فإن كل تجمع بشري قادر على إعادة تكوين العشيرة البدائية.
تلك الروابط العاطفية التي يتسم بها الجمهور تكفي لتفسير انعدام الاستقلال وغياب المبادرة الفردية، وتماثل ردود أفعاله مع ردود أفعال سائر الأفراد الذين يتألف منهم الجمهور، وهبوطه إلى مستوى وحدة من وحدات الجمهور، وينحط النشاط الفكري للجمهور، وتشتط العاطفة إلى أوسع مداها، ويعجز عن الاعتدال وضبط النفس، ويميل لتجاوز الحدود كافة في التظاهرات العاطفية، وإعطاء متنفس لهذه التظاهرات بالمبادرة إلى الفعل، وهذا ما يُكسب أشخاصاً مثل شيكابالا وسيد عبد الحفيظ مصداقية كبرى، ليس لأن كلامهم منطقي وصادق بالضرورة، فعند تمحيصه ونقده تجده مليئاً بالمغالطات، ولكن الجماهير تميل لتصديقه.
وفي كرة القدم، يعد شكل تنظيمها الحالي أرضية مثلى لتأكيد الهويات الجماعية وما ينافسها من هويات محلية أو إقليمية، من خلال هذه القدرة على الحشد وإعطاء المثل على الانتماء من خلال روح الفريق، وروح الجماهير من خلفه وهي تؤازره.
خاصية كرة القدم المميزة أنها لا تقترب من عالم العمل اليومي الروتيني، وليس أنها لعب لا إلزام فيه، إنما جمعها لعدد غفير من الأفراد وتحويلهم لفترة مؤقتة إلى كتلة جماهيرية، ثم علاقة التبادل بين هذه الكتلة الجماهيرية وبين اللاعبين، فكُرة القدم قادرة على إدماج الأفراد في وحدة (الفرد-الكتلة الجماهيرية) ثم قدرتها على خلق الاتصال والتبادل.
إن ذلك الاستعداد الفطري الإنساني الذي يعبر عن نفسه في ظاهرة الجمهرة، تستطيع الحكومة استغلاله استغلالاً جيداً لتدجين الجماهير، فالرياضة كما يراها الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير يمكنها أن تتحول لأيديولوجيا من خلال الأجهزة الثقافية للسلطة في وسائل الإعلام والصحف وغيرها، ومن خلال تلك الوسائل الضبطية تستطيع الدولة تدجين مواطنيها وتفرقتهم وتشتيتهم في قضايا أبعد كثيراً عن قضايا الصراع الحقيقي.
رشفة وعي لم تلبث أن تنضب
كرة القدم تتقاطع مع الكثير من المجالات الإنسانية، خاصةً مجالي الاقتصاد والسياسة، ولكن يحمل وصف كرة القدم المصرية بأنها لُعبة مُسيسة معنى يختلف عن جدلية العلاقة بين الكرة والسياسة في المطلق. تتقاطع الكرة مع السياسة في مناطق كثيرة في العالم، نرى سنوياً إقليم كاتالونيا يستغل الزخم الخاص بمباراة الكلاسيكو لتعزيز هويته ومطالبه الانفصالية، ونرى السياسة تُعبر عن ذاتها في الكرة أيضاً في صافرات استهجان الهولنديين والأوكرانيين للألمان في المباريات التي تجمع منتخباتهما أو فرقهما، لتعبر عن عار الاحتلال النازي الذي لا يُمحى من الذاكرة. كما أننا نرى في ملحمة سيليتك ورينجرز صراعاً انفصالياً-اندماجياً، ونرى احتجاجاً واضحاً في مباريات المنتخب الإنجليزي مع الأيرلندي أو الويلزي أو الاسكتلندي، ويمكننا أن نرى تجليات الصراع الطبقي للمجتمعات في محافل أمريكا الجنوبية، عندما يلتقي ريفربلايت مع بوكا جونيورز في الأرجنتين، أو جلطة سراي وفناربخشة في تركيا.
في مصر ما يحدث هو العكس تماماً، فالسياسة تتدخل في الكرة لتقتل الوعي السياسي لا لتُعززه، ولم تشهد مصر استغلالاً لسحر كرة القدم في حشد الجماهير في مكان واحد ولمّ شملهم حول قضايا معينة سوى في فترة قصيرة جداً بين عامي 2007 و2015، حيث كان نشاط رابطة الألتراس في أوجه، وبدأت الملاعب تتكلم بلغة سياسية، وبدأت كرة القدم مساندتها لقضايا الشعب ومطالبه المعيشية.
ما يجعل الحالة التي تسود الكرة المصرية الآن مثيرة للاهتمام هو أن مصر كانت أكثر الدول التي طوعت كرة القدم سنوات وسنوات لخدمة السياسة ولتلميع مشوهي المشهد السياسي، فقد كان مشهد الرئيس مبارك حاملاً لكأس الأمم الإفريقية في ستاد القاهرة تحت أعين 80 ألف، مسلّماً إياها للقائد حسام حسن، كفيلاً بكسر حالة الاحتقان والتربص التي سادت الشارع المصري تجاه حكومته في حادثة غرق العبارة الشهيرة عام 2006، وغير هذا المثال يمكن أن نعدد الكثير. وما حدث في ثورة 25 يناير كان بمثابة علاج بالصدمة للاستفاقة من ذلك الواقع ليتردد في أغاني روابط الألتراس: "الكورة لما جينا\كانت كدب كانت خداع\كانت مغيبة للعقول\كانت للسلطة قناع\بيحاولوا يجملوها وتبقي هدم للبلاد\ وناسين المدرج اللي مليينه آلاف".
وما حدث عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير من انصراف تجارة الإعلام عن استهلاك كرة القدم، والتوجه لوجبة السياسة الدسمة، لتشهد تلك الفترة تقلص عدد قنوات كرة القدم التي كانت كثيرة، على سبيل المثال:
"مودرن سبورت 1، 2، ميلودي سبورت، دريم سبورت، زووم سبورت" لنرى الكثير من تلك القنوات إن لم تكن كلها تغلق تباعاً وتخرج شبكة جديدة من القنوات غير المتخصصة في الرياضة، بل كانت مباريات كرة القدم على هامش جدول برامجها كقنوات CBC وMBC Masr وTen وOntv وباستثناء شبكة قنوات النهار التي أطلقت قناة متخصصة للرياضة، لم تنجح أبداً في الصمود تجاه حالة العزوف عن الرياضة حتى أغلقت في العام 2015.
لقد كانت تلك الفترة من تاريخ مصر فترة وعي شعبي بأهمية السياسة ومشاكل المعيشة التي لم تعد تشكل الكرة بعد كسر نير العبودية في ثورة يناير مورفيناً مخدراً قادرة على خلق حالة السكون والاستسلام.
كانت هذه الفترة أيضاً هي فترة الفضيحة للكثير من الرموز الرياضية، حين أصبح من حق المواطنين التعرض للمحصنين في أيام دفعة الحرية العظيمة، فقد رأينا رئيس نادي الأهلي في عصره الذهبي حسن حمدي في سجون القضاء.
انتكاسة "أحمد شوبير"
وتعد حالة الإعلامي أحمد شوبير أيضاً مثالاً على الردة وانتكاسة الوعي تلك، بصفته واجهة الإعلام الرياضي حالياً.
كان شوبير عضواً في الحزب الوطني المنحل، وكان أبرز ضحايا مقصلة الثورة، بمحاولاته المستمرة للتنصل من ذلك الماضي وملاحقة ألتراس أهلاوي المستمرة له، ومحاولته الركوب على الثورة.
الفضيحة ربطت بين كرة القدم والمجتمع، وكان للفضيحة وظيفة تطهيرية للمشاهدين، لقد تحطم عالم الكرة السليم، واقترب الواقع الاجتماعي وواقع كرة القدم، بعد إبعاد الأوهام عنه. إن اكتشاف الفساد لم يؤد فقط إلى رفع الغشاء الوهمي عن هذه الرياضة، وإنما أيضاً إلى معرفة الواقع الذي يحمل في طياته الفساد، واعتبار الإداريين مسؤولين عن محاولة وضع كرة القدم خارج نطاق الواقع الاجتماعي.
لذلك تعد الحالة التي انتكست إليها الجماهير المصرية مجدداً مثيرة للاستغراب، بعد أن تجمعت روابطها في الميادين في ومضة تاريخية لتطالب بمطالب واحدة تتفق على العيش والحرية والعدالة، إلى فرقاء محتربين شرهين لتعاطي مخدرات كرة القدم من جديد، بل وبحالة أكثر نهماً وتغييباً.
الخطاب الشعبوي الرياضي
إن تغلغل الخطاب الشعبوي في الكرة المصرية يعد من أبرز آفات اللعبة حالياً، والتي تساعد في تزكية حالة الاحتقان بين الجماهير المصرية، ويمكن الشك في كون الكثير من الألفاظ والتصرفات الشعبوية تخدم مصالح أفراد يتصارعون في حلبة الرياضة، أو تخدم سياسات عليا.
من التصرفات الشعبوية التي يمكننا أن نقف عندها، حينما التقى النادي الأهلي المصري ونادي المصري البورسعيدي للمرة الأولى عام 2014، بعد عامين من مجزرة بورسعيد، وحملت اللقاءات الثلاثة الأولى بينهما توترات وأثقالاً شديدة، وكانت هناك ظاهرة لا يمكن أن نغفلها عند تحليل الشعبوية في الرياضة المصرية، فلقد وجهت إدارة الأهلي بعدم مصافحة لاعبي المصري البورسعيدي، وارتداء القمصان السوداء التي تحمل عدد الشهداء وتخلدهم في إحماءات ما قبل تلك المباراة تحديداً، ولكن لماذا انتهت تلك الظاهرة في لقاء الدور الثاني من العام 2016؟
يمكننا أن نربط بين تلك الظاهرة وكرونولوجيا الحكم في قضية بورسعيد، ففي العام 2014 كانت إعادة محاكمة 21 شخصاً متهمين في القضية، وفي العام 2015 كانت إحالة أوراق 11 إلى مفتي البلاد، للمصادقة على إعدامهم، وكانت مواقف إدارة الأهلي مع فريق المصري ولاعبيه مواقف شخصية تماماً، كأن أهالي بورسعيد هم الذي ارتكبوا المجزرة حقاً بحق مشجعي الأهلي، في الواقع لقد كانت شخصنة القضية بين جمهور الأهلي ومحافظة بورسعيد سبباً ساعد في إغلاقها سريعاً، رغم ما يلفها من الغموض وتورط الأجهزة السيادية فيها، وهو ما نرى انعكاسه في حالة المصافحة التي حدثت بين لاعبي الأهلي ولاعبي المصري في العام 2016، بينما كانت القضية في محطتها قبل الأخيرة بعد أن تم إقصاء كل التهم الموجهة للشخصيات السيادية.
الأهلي فوق الجميع
"الأهلي فوق الجميع" هو شعار شعبوي حتى النخاع، وبقدر فجاجته أثار قضية مؤخراً بين إدارة الأهلي والإعلامي إبراهيم عيسى الذي وصف الشعار بأنه نازي، وهذا ما أغضب رئيس الأهلي محمود الخطيب، في الواقع إن ذلك الشعار لم يكن سوى ابنٍ لمرحلة معينة، حاول فيها صالح سليم بحسن نية أن يوحد صفوف فرقاء النادي الأهلي في انتخابات رئاسة النادي، فحينما أطلق صالح ذلك الشعار كان يقصد أن الأهلي داخل النادي الأهلي وعالمه هو فوق الجميع وتحزبهم ومصالحهم.
إلا أن ذلك الشعار برفقة "أهلي المبادئ" و"الأهلي يحكم" خلق حالة من الصنمية في أذهان الجماهير، استغلتها الرموز الأهلاوية كمحمود الخطيب الذي أطلق حملته الانتخابية تحت عنوان ""أهلي المبادئ راجع" وكأن النادي الأهلي كان مستلباً وممسوخ الهوية في عهد الرئيس السابق محمود طاهر، وهو ما خلق حالة تماهٍ جماهيرية غير مسبوقة مع انتخابات الجمعية العمومية للنادي الأهلي، سيطرت على الرأي العام ووجهته في فترتها.
وعلى الضفة الأخرى، كان شعبوي بامتياز يدعى مرتضى منصور ممثلاً لنادي الزمالك، الذي أطلق على نفسه "أسد الزمالك"، واحتكر صفات "الكرامة والوطنية" ليجعلها شعاراً مميزاً لنادي الزمالك، وكأنهم من دونه هم أقل وطنية وكرامة.
بالإضافة لذلك تلهف مرتضى على تبني قضية المظلومية التاريخية لجماهير نادي الزمالك، وكون المنافس هو نادي الدولة، وهم نادي الأحرار، الذي أصبح له صوت قوي الآن بقيادة المستشار، وقد أقحم مرتضى منصور الزمالك ممثلاً في شخصه في العديد من القضايا والصراعات التي تحتل مكاناً في لوبي السياسة والعلاقات الدولية لا الرياضة.
كان من عيوب مرتضى منصور التي تعد ميزة في خدمة أجندات الحكومة الأفيونية، هو أنه كان فاجراً في الخصومة وتصفية الحسابات الشخصية مع فصيل هام من الجماهير هو ألتراس وايت نايتس، تلك الخصومة التي شحذت تركيزاً كبيراً وهاماً على تلك القضية طيلة وجود مرتضى على الساحة، لدرجة أن انتخابات الزمالك عام 2017، التي تصادفت مع الهجوم الإرهابي الأشرس في بئر العبد، استطاعت أن تغطي على مناقشتها بسبب حالة الفراغ السياسي التام التي يعيشها المجتمع المصري، وانصرف قطاع طاغٍ من الشباب لمتابعة عملية الحشد والتأييد، وتكوين الحملات، وتشكيل رأي عام، ومراقبة فرز الصناديق، وتحريك المشهد في محاولة لإسقاط مرتضى منصور.
يرى إدواردو غاليانو أن كرة القدم قد تكون استعارة للحرب، جعلت التطرف في التشجيع في كرة القدم يحتل مكاناً كانت تحتله في السابق الحماسة الدينية، والغيرة الوطنية، والشغف السياسي، وكما يحصل أحياناً مع الدين والوطنية والسياسة تجعل كرة القدم التوتر يحتدم، وتُرتكب العديد من الفظاعات باسمها.
شهدت الكرة المصرية حالةً حادةً من الاستقطاب، تسبب فيها دخول المقاول الاقتصادي تركي آل الشيخ، وقد دخل آل الشيخ الكرة المصرية مقدماً نفسه كمحقق لأحلام النادي الأهلي وجماهيره، وقد بدأ خطابه في إظهار شخصه أنه والنادي الأهلي مصلحةً وجماهير كتلة واحدة.
إن تركي آل الشيخ كغيره من المقاولين الشعبويين استغل ثروته للارتباط بالشعب، وإضفاء هالة من الأصالة حول نفسه، من خلال تقديم ذاته كعصامي، وتحدثه بالعديد من المصطلحات المصرية الصرفة ليُشعر الجمهور أنه منهم، وتبني سياسة الخيرية تجاه المجتمع والحالات الإنسانية. وقد أخلّ دخوله كرة القدم المصرية للمرة الأولى بالموازين، فبعد أن كان النادي الأهلي قرشاً للعبة، أصبح حوتاً بوجوده، وكانت جماهير الأندية الشعبية على الجبهة الأخرى تواصل الغليان، وسرعان ما وقع الشقاق المتوقع بين الأهلي وشخص آل الشيخ، ليتلون الأخير باللون الأبيض الزمالكاوي، الذي تلقّى ترحيباً من رئيسه وفصيل غير قليل من جماهيره، لتنقلب الموازين مرة أخرى في كرة القدم المصرية، وتتهاوى قدرة الأهلي الاحتكارية، وتلاحق الاتهامات إدارته التي تحصنت منذ يومها الأولى بسلسلة مدعاة من المبادئ، وقد ظل آل الشيخ خلال ثلاث سنوات من دخوله إلى الكرة المصرية يمارس لعبة التلوّن تلك، التي صنعت حالة الاحتقان الجماهيرية كما هي على شكلها الحالي، بسكوت وتواطؤ تام من المسؤولين المصريين.
المدرج البديل
لا يمكن التغافل عن المدخلات الثقافية الهامة التي توغلت في حياة المصريين في السنوات الأخيرة، أهمها وبشكل خاص السوشيال ميديا ومنصاتها، خاصة الصفحات الرياضية على الفيسبوك، وما جعل التشجيع عبر منصات السوشيال ميدياً هاماً في حياة المصريين أن صعودها قد توازى مع حالة مستمرة من إسكات المدرج الحقيقي ومنع الجماهير من حضور المباريات في الاستاد.
يرى إدواردو غاليانو أن كرة القدم قد تكون استعارة للحرب، جعلت التطرف في التشجيع في كرة القدم يحتل مكاناً كانت تحتله في السابق الحماسة الدينية، والغيرة الوطنية، والشغف السياسي، وكما يحصل أحياناً مع الدين والوطنية والسياسة تجعل كرة القدم التوتر يحتدم، وتُرتكب العديد من الفظاعات باسمها.
ولقد ظهرت تلك الأهمية بوضوح حينما أخذت الحكومة المصرية في تضييق الخناق على هامش الحرية الوليد، في أعقاب الخامس والعشرين من يناير، ومصادرة النقاشات السياسية والدينية أولاً بأول، فأصبحت كرة القدم هي الفضاء الوهمي لممارسة الديمقراطية، أو شعور الجماهير بحالة حقيقية من أنها تسيطر على مصيرها حينما تتناقش بحرية حول أنديتها ومسؤوليها وفسادهم، ويمكنها أيضاً محاسبتهم والهجوم عليهم.
والسوشيال ميديا بدورها قد أسهمت بقوة في الضغط الجماهيري على مسؤولي كرة القدم وإداريي الأندية، وفي الواقع أصبحت العلاقة بين الجماهير ومسؤولي الكرة في مصر علاقة تغذية راجعة من الأسفل إلى الأعلى، بعدما كانت من الأعلى إلى الأسفل، وقد دفعت الجماهير المسؤولين واللاعبين إلى تبنّي خطابات التعصب والكراهية الجماهيرية، والتي في الوضع الطبيعي كانت لتكون خاصة بالجماهير فقط، أما النخب المسؤولة والممارِسة للعبة فتمارس خطاباً دبلوماسياً يتسم بالروح الرياضية.
لقد أخذت أهمية السوشيال ميديا تتزايد حين وجدت القوى الفاعلة في الخطاب الإعلامي الرياضي بالمواقع الرياضية الإلكترونية عبر مواقع التواصل الاجتماعي ضالتها كمنصات إعلامية، ليصل خطابها الإعلامي إلى كافة الجماهير الرياضية على اختلاف انتمائها الرياضي، وثمة تجاوز في هذا الطرح، حيث عمدت بعض تلك القيادات إلى استخدام خطاب غير أخلاقي، أفرز بدوره خطاباً رياضياً سلبياً، قوامه تبادل الاتهامات وتشويه الحقائق، لتزيف وعي الجمهور الرياضي، ما ساعد على شحن وتعبئة الجمهور الرياضي واستمالته لتبنى الطرح الإعلامي المتحيز، والصادر عن القيادات الرياضية، وقد نتج عن ذلك تحول في مواقع التواصل الاجتماعي لتتحول إلى ساحات حرب لفظية بين الجمهور الرياضي، ولقد أثبتت تلك المنصات دورها الهام حين صدّرت جيلاً من الإعلاميين الجدد الذين لم يدرسوا الإعلام من الأساس، استقطبتهم القنوات الرياضية العامة أو الرياضية الفئوية الخاصة بالأندية، ليعملوا بها ويقدموا برامج تنتظرها الجماهير، بصرف النظر عن احترافية الإعلامي، ولكن يكفيه أنه محسوب على أحد الأندية ولديه عدد غفير يتابعه من مشجعيه.
لقد تحول الواقع الرياضي في مصر من تبادل للآراء والتحليلات الممتعة، إلى تبادل لقصف الجبهة كما يحلو للجماهير تسميته، ولقد تحول ذلك القصف الجماهيري المتبادل إلى فقرة تتبناها شخوص المسؤولين والمتحدثين باسم الفرق ونجومها ومدربيها، في أعقاب كل مباراة في الدوري أو الكأس، وخلق حالة دائمة من التربص، والاعتراض من أجل الاعتراض، في الواقع إن العداء بين الأهلي والزمالك وجماهيرهما مثلاً ليس جديداً على الكرة المصرية، ولكن ما جدّ فيه أنه تحوّل لعداء قائم على العناد "وتنشيف الدماغ".
لقد وصلت الحالة في الكرة المصرية إلى أزمة، لن يحلها تدخل من واجهة دينية رسمية كأسامة الأزهري، فذلك أشبه بصلح أطفال في فصل مدرسي، إن الواقع الرياضي المصري يمكن أن نأمل في تحسنه إذا خفت الضغوط السياسية من عليه، وأعطينا الجماهير حالة أكبر من الحرية لممارسة حقوقهم السياسية والديمقراطية والدينية، فما يحدث في الكرة المصرية حالياً ليس سوى حالة تغذية متبادلة بين المناخ الاستبدادي وظاهرة الجمهرة في غير موضعها الطبيعي، وهي حالة تكررت كثيراً في كرة القدم المصرية، ولكنها وصلت إلى ذروة صناعة حالة هويتية تشجيعية قد تفجر كارثة عما قريب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.