دأب الرئيس التونسي قيس سعيد بعد دخوله قصر قرطاج على إلقاء خطابات يغيب عن تركيب جُملها تحديد الفاعل خاصة تلك التي تتضمن توجيه الاتهامات يميناً ويساراً، ما يفتح مراراً باب التأويل على مصراعيه ويجعل عموم التونسيين يتوجسون خيفة من محاولات لا تنتهي لاغتيال رئيس الدولة كتبعات لاختياره صفّ الشعب كما يقول، في مقابل نُخبة تُطالبه بالكشف عن الجهات التي لا يفتأ يشير لها ويتهمها بالسعي لتصفيته وإحالة ما لديه من مُعطيات على القضاء.
منذ فوز قيس سعيد بالانتخابات الرئاسية التي أجرتها تونس في النصف الثاني من سنة 2019، كانت أهم الملاحظات أو الانتقادات التي وُجهت له تتلخص في مواصلته ارتداء جلباب أستاذ القانون الدستوري المترشح للرئاسة وعدم الوعي بتحوله من مرشح إلى رئيس فعلي للدولة وما يتطلبه المنصب من تحفّظ وتجنب تحرير القول بالصيغة التي يعتمدها، إلا أنه وإلى نهاية الأسبوع الماضي لا يزال يتحدّث عن محاولات تصفيته.
خلال لقاء مع وفد عن مجلس الشيوخ الأمريكي يوم السبت الماضي أعاد الرئيس التونسي قيس سعيد الحديث عن محاولات اغتياله في سياق توضيح أنه استعمل فصلاً دستورياً للحفاظ على الدولة التونسية، ليمر إلى "لم يكن إطلاقاً انقلاباً لأن الانقلاب هو خروج عن الشرعية.. ومع ذلك يذهبون إلى الخارج ليشوهوا صورة بلدهم وصورة رئيسهم، بل يبحثون عن بعض المنظمات الإرهابية لاغتيال رئيس الجمهورية".
إرهابيون ومرتزقة من الخارج
حديث الرئيس التونسي عن البحث عن بعض المنظمات الإرهابية من أطراف داخلية لمحاولة اغتياله أمام الوفد الأمريكي، سبقه اتهام الرئيس التونسي قيس سعيّد قبل أيام أطرافاً في الداخل -لم يذكرها بطبيعة الحال- بالعمل على جلب مرتزقة من الخارج لتنحيته من الحكم بقوة السلاح بهدف إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل 25 يوليو، تاريخ إقالته لرئيس الحكومة وتجميد نشاط البرلمان ورفع الحصانة عن النواب.
الرئيس سعيد اكتفى يومها بقول: "لا نخاف في الحق لوم لائم، ومهما كان الطرف الذي يناور أو يحاول أن يشتري بالأموال بعض المرتزقة الذين يأتون من الخارج"، ليفسح المجال أمام التأويلات والإشاعات والأخبار المضللة، خاصة أن حديثه عن جلب مرتزقة من الخارج لاغتياله كان في سياق انتشار أخبار غير رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، مفادها أن عشرات الإرهابيين يستعدون لدخول تونس انطلاقاً من قاعدة الوطية في ليبيا.
لا يبدو أن قيس سعيّد خرج من جلباب المترشح للانتخابات الرئاسية، فالرجل لم يدرك بعد أن ما يصدر عنه كرئيس دولة تحت إمرته أجهزة الجيش والمخابرات والشرطة يؤخذ على محمل الجدّ، خاصة إن كان الأمر يتعلق بمحاولات اغتياله التي لا ينتهي حديثه عنها بغض النظر عن صحّتها من عدمه.
وما ساعد في الانتشار الرهيب لأخبار استعداد إرهابيين متواجدين في ليبيا دخول تونس خلافاً لإشارة الرئيس لها، هو السابقة التي حصلت في مارس 2016 والمعروفة في تونس بهجوم مدينة بنقردان التي تقع على الحدود مع ليبيا، وتمثلت في هجوم مسلّح نفّذه مجموعة كبيرة من الإرهابيين المنتمين إلى "داعش" في ليبيا على المدينة الحدودية لمحاولة للسيطرة عليها وتحويلها إلى إمارة تخضع لسيطرة التنظيم، إلا أن قوات الجيش والدرك والشرطة تمكنت من صدّهم بعد اشتباكات عنيفة أسفرت خلال ساعاتها الأولى عن 55 قتيلاً من بينهم 36 من منفذي الهجوم و12 من القوات المسلحة التونسية و7 مدنيين.
لكن كما بقية الاتهامات التي يوجهها قيس سعيد سواء بمحاولات تصفيته أو غيرها من الاتهامات، خاصة تلك المتعلقة بالفساد أو الثراء غير المشروع، بقيت إلى حدود الساعة مجرد اتهامات لا غير ما جعل النخب السياسية والإعلامية في البلاد تطالبه بالكشف عما لديه من أدلة وبراهين للرأي العام لمعرفة الجهات التي تسعى لاغتياله أو إحالة تلك الملفات على القضاء، لكن قيس سعيد لا يُجيب ولا يتفاعل ويُبقي الغموض والضبابية على ما هي عليه.
الظرف المسموم.. الحادثة الأشهر
أشهر روايات محاولات اغتيال الرئيس التونسي قيس سعيد، هي تلك المعروفة لدى التونسيين بحادثة الظرف المسموم التي انخرطت في سرديّتها مؤسسة رئاسة الجمهورية بعد تداول أخبار وصول بريد مشبوه إلى قصر قرطاج، فرئاسة الجمهورية نشرت بلاغاً رسميّاً في 28 يناير 2021 قالت من خلاله إن قصر قرطاج تلقى يوم 25 يناير 2021، حوالي الساعة الخامسة مساءً بريداً خاصاً موجهاً إلى رئيس الجمهورية يتمثل في ظرف لا يحمل اسم المرسل.
ووفق الرواية الرسمية الصادرة عن رئاسة الجمهورية في تونس قامت مديرة الديوان الرئاسي نادية عكاشة، وهي الشخصية الأقرب لقيس سعيد والمُتداول في تونس أنها المؤثر في خياراته، بفتح الظرف فوجدته خالياً من أي مكتوب، ولكن بمجرد فتحها للظرف تعكر وضعها الصحي وشعرت بحالة من الإغماء وفقدان شبه كلي لحاسة البصر وصداع شديد في الرأس، شأنها شأن أحد الموظفين في القصر الذي كان موجوداً عند فتح الظرف الذي أكدت الرئاسة أنه تم وضعه في آلة تمزيق الأوراق قبل أن يتقرر توجيهه إلى وزارة الداخلية لإخضاعه للتحاليل اللازمة.
التفاعل مع حادثة الظرف المسموم لم يتوقف على الداخل التونسي، الرئاسة الجزائرية مثلاً أعلنت آنذاك حتى قبل إصدار الرئاسة التونسية بلاغاً رسمياً بخصوص الحادثة، إن الرئيس عبد المجيد تبون أجرى هذا المساء مكالمة هاتفية مع أخيه رئيس الجمهورية التونسية السيد قيس سعيد للاطمئنان على وضعه بعد نبأ محاولة تسميمه، كما تلقى سعيّد عديد المكالمات الهاتفية من رؤساء دول عربية وأوروبية للاطمئنان عليه.
لكن حملت نهاية شهر يناير 2021 صدمة للجميع بإعلان النيابة العامّة أن خلاصة الاختبارات الفنية على الظرف المشبوه بيّنت عدم احتوائه على أية مواد مشبوهة سامة أو مخدرة أو خطرة أو متفجرة، ما أثار شكوكاً في صحة رواية رئاسة الجمهورية، خاصة أن عدداً من الشخصيّات التي تقلدت مهام برئاسة الجمهورية أكدت أن الرسائل التي ترد على قصر قرطاج لا يُمكن أن تصل الديوان الرئاسي قبل فتحها والتثبت من محتواها.
سعيّد يُشير والشعب يتكهّن
الرئيس التونسي قيس سعيد لا يذكر بطبيعة الحال من هي الجهات التي لا تتوقف عن محاولات اغتياله وفق ما يؤكّده، إلا أنه يشير إليها في بعض الأحيان بإشارات تدفع للاعتقاد بأن حركة النهضة هي من تُخطط لاغتياله، فالرجل قال حرفيّاً في شهر أغسطس الماضي: "الذين يقولون إنّ مرجعيّتهم هي الإسلام، أين هم من الإسلام ومن مقاصد الإسلام؟ أقول لهم وأعرف ما يدبّرون، إنّي لا أخاف إلّا الله ربّ العالمين، بالرغم من محاولاتهم اليائسة التي تصل أو يفكّرون في الاغتيال، يفكّرون في القتل ويفكّرون في الدماء".
لتُصدر حركة النهضة بياناً بعد تصريح قيس سعيّد الذي لا يُمكن أن يُفهم من طرف التونسيين إلا بأنه يتّهمهم بمحاولة اغتياله، دعت من خلاله النيابة العامة للتحقيق في ما صدر عن الرئيس من سعي أطراف ذات مرجعية إسلامية لاغتياله وكشف المؤامرات التي تحدث عنها الرئيس من أجل تحديد المسؤوليات وطمأنة الرأي العام، في إشارة ضمنية إلى أن اتهامات ضمنية لها بتلك الخطورة لا يجب أن تمرّ دون التحقيق في صحّتها لتأكيدها أو نفيها من طرف أجهزة الدولة.
إلا أن تلك الاتهامات والإشارات الصادرة عن الرئيس التونسي قيس سعيد لا تزال إلى حدود الساعة مجرّد تصريحات تنشرها رئاسة الجمهورية على صفحتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي ولم تأخذ منحى قضائياً رغم خطورتها الكبيرة، شأنها شأن كل ما يصدر عن سعيد، خاصة الاتهامات المتعلقة بالفساد والإثراء غير المشروع التي يكتفي خلالها بالإشارة إلى أن المعني بملفّ الفساد هو نائب أو محامٍ لتنطلق موجة من التكهّنات الشعبية بالشخصية التي يتحدّث عنها وتُنصب المحاكمات الافتراضية لعشرات النواب أو المحامين أو من يشير لهم سعيد في خطابات الاتهامات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.