من الناحية الاستراتيجية، يمكن أن تؤدي عودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان إلى استقرار المنطقة، وانخفاض كبير في قدرة الولايات المتحدة على التأثير على بلدانها، وتحقيق العزلة النسبية للهند كدولة تربط مستقبلها بالغرب وزيادة التعاون بين باكستان والصين واتباع استراتيجية "أكثر تعاونية" من قبل روسيا مع دول الاتحاد السوفييتي السابق.
تتشابه الأحداث التاريخية التي تحدث الآن مع ما حدث في أفغانستان في فبراير 1989 بانسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان، حيث حدثت تغيرات سياسية دولية وانتهاء الحرب الباردة والهزيمة الفعلية للاتحاد السوفييتي ومن ثم انهياره، لذلك يجب التأكيد على أن قراءة تغير الأحداث التاريخية يتم من خلال الظروف التي تحدث فيها، فالأجواء الدولية تكشف نمو الصين كقوى دولية، بالإضافة لقدرة موسكو وبكين على تنسيق مواقفهم تجاه أهم القضايا التي تحدث وسط آسيا.
لقد دفع وصول حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان في منتصف التسعينيات إلى محاولة من قبل الولايات المتحدة لتعزيز قدرتها على تحديد تطور السياسة العالمية، وأصبح ما قامت به طالبان حينها على الأراضي الأفغانية وفقاً للسياق سبباً مشروعاً للاهتمام الدولي وللإدانة، فحصل التدخل العسكري للدول الغربية في أفغانستان على نفس الدعم تقريباً الذي حظيت حرب تحرير الكويت عام 1991.
على المدى الطويل أدى إنشاء نظام طالبان الراديكالي في كابول عام 1996 إلى تهيئة الظروف لتوسع وجود الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها في وسط آسيا، وكان سبباً لازدياد النفوذ الغربي في دول آسيا الوسطى، فحتى عام 2014 حافظت الولايات المتحدة على الوجود العسكري المباشر في المنطقة في شكل قواعد ومراكز لوجستية في منطقة وسط آسيا.
ورغماً عن ذلك سيكون لعودة طالبان إلى كابول في عام 2021، بعد السقوط المفاجئ للحكومة الأفغانية الموالية للغرب برئاسة أشرف غني عواقب مختلفة تماماً؛ إذ سيؤدي هذا الأمر إلى تعزيز النفوذ الصيني في المنطقة، وتهيئة الظروف للنفوذ الروسي وإضعاف النفوذ الغربي في ظل المنافسة الشديدة مع موسكو وبكين، فترى روسيا والصين وفقاً لسياق التصريحات الحالية منذ الانسحاب الأمريكي أن ما تفعله طالبان ليس سبباً لحرمانها العام من حقها في الوجود، حيث تغير السياق الدولي، فمن الناحية الاستراتيجية يمكن أن تؤدي عودة طالبان إلى السلطة إلى استقرار المنطقة.
فنحن لا نعرف حتى الآن ما إذا كان الاستقرار في أفغانستان سيصبح واقعاً أم لا، ومع ذلك فلأول مرة منذ الأربعين عاماً الماضية، يستند الاستقرار السياسي الداخلي في أفغانستان إلى انتصار عسكري لحركة سياسية موحدة نسبياً (ذات قيادة موحدة)، بالإضافة إلى اتفاق روسيا والصين، القوتين الإقليميتين الرئيسيتين، على ضرورة منح حركة طالبان فرصة لإظهار تجربتها السياسية الداخلية والخارجية، فبالنسبة للصين قد أعلنت عن نيتها التعاون مع الطالبان في تنفيذ المشاريع الاقتصادية الكبرى بشرط ورفض دعم الجماعات الدينية التي تشكل تهديداً لأمن الأراضي الصينية، أما بالنسبة لروسيا فشرطها تجاه طالبان للتعاون معها عدم وجود نوايا عدوانية تجاه دول آسيا الوسطى، وضمانات تضمن أمنها، فضلاً على الحد من تدفق المخدرات القادمة من أفغانستان للأراضي الروسية.
القوى الإقليمية
لذلك إذا أصبحت هذه التوقعات حقيقية، وفشلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في إيجاد فرص لإعادة أفغانستان إلى حالة الحرب الأهلية، فسوف تنكسر حالة عدم الاستقرار في منطقة وسط آسيا، سيكون هذا تغييراً جيواستراتيجياً مهماً في المنطقة، والتي كانت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ميداناً للتنافس بين روسيا والقوى البحرية الأنجلوساكسونية؛ أولاً بريطانيا العظمى ثم الولايات المتحدة.
فما حدث وسيحدث مستقبلاً في أفغانستان قد يكون له عواقب أخرى أيضاً بتعزيز موقف باكستان التي لديها تعاون استراتيجي في العقد الماضي مع الصين وتعتمد على فرصها الاقتصادية، ما سيشكل تهديداً للهند بعدم الأمان، حيث ترى الهند أن سيطرة طالبان على أفغانستان ستشكل ضربة خطيرة لمصالحها الاستراتيجية، حيث توجد حالة عداء بين الهند من جهة وبين الصين وباكستان من جهة أخرى على خلفية مناطق حدودية متنازع عليها، بالإضافة لذلك من المحتمل أن تصبح محاولات الولايات المتحدة وحلفائها لإقامة حوار مع إيران أكثر نشاطاً في الفترة المقبلة.
بالنسبة لروسيا ما يهمها هو كيف سيؤثر تقليص الوجود الأمريكي في وسط آسيا على موقف تركيا، فرغم أن تركيا بقيادة أردوغان لديها استقلال كبير جداً في قراراتها السياسية، فإنها لا تزال مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتحدة وأوروبا اقتصادياً، ففي حالة تعزيز السيطرة الصينية الروسية على دول الجوار المشترك، قد تضطر أنقرة إلى استعادة العلاقات مع حلفائها في الناتو أيضاً، ولا يمكن استبعاد محاولات تركيا لتوطيد العلاقات أكثر وأكثر مع دول آسيا الوسطى القريبة مثل أذربيجان، الأمر سينتج عنه حذراً روسيّاً، بشكل عام بالنسبة لروسيا فإن هزيمة الولايات المتحدة في أفغانستان لا تعني فقط انخفاض قدرات العدو الرئيسي لها في القرار الدولي، ولكن الأمر مرتبط أيضاً بتغيير عام في الوضع الاستراتيجي الإقليمي لدول جوار روسيا، لذلك لا يمكننا استبعاد احتمال تغير سياسة روسيا تجاه دول آسيا الوسطى في ظل الظروف الجديدة؛ لأن معظمهم مرتبطون بطريقة أو بأخرى بروسيا من خلال علاقات الحلفاء، لكن التعاون الثنائي ليس تعاوناً استراتيجياً، فبعد أن فقدت الولايات المتحدة جزءاً مهماً من مواردها في المنطقة، قد تواجه موسكو مسؤولية كبيرة لاستقرارها الداخلي.
لكن الولايات المتحدة نفسها ستبحث عن طرق للعودة إلى المنطقة بطريقة أو بأخرى، فلم يكن للهزيمة في أفغانستان تأثير خطير على القدرات العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة فحسب، وإنما بعد زوال الصدمة الأولية للانسحاب من أفغانستان هناك جولة جديدة من الصراع على النفوذ الإقليمي، ويجب اعتبار أنه في هذا الصراع ستكون المصالح الصينية والروسية ذات أولوية قصوى.
نهاية التأثير الأمريكي؟
فلم يكن سقوط كابول في 15 أغسطس 2021 حدثاً تاريخياً مهماً للولايات المتحدة لأنه يمثل النهاية الفعلية لمحاولاتها في ممارسة تأثير حاسم على السياسة الدولية فقط، وإنما هي في المقابل لن ترضى بأن تكون تلك هي النهاية، فستستمر جهودها للتأثير على السياسة الدولية، وإن كان ذلك سيكون تحت شعارات أيديولوجية جديدة، فقد تخلت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة عن محاولات إنشاء نظام عالمي جديد تحت قيادتها، لذلك فإننا نتعامل مع تغيير في ميزان القوى الديناميكي الذي يحدد طبيعة العلاقات الدولية، وعلى أي حال فإن هذا التغيير يجلب فرصاً جديدة وأسئلة جديدة والتي ستحتاج إلى إجابة في المستقبل القريب جداً.
لقد هُزمت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي والغرب في أفغانستان فالانسحاب من أفغانستان يمثل كارثة، والنتائج يمكن مقارنتها بالهزيمة المخزية للولايات المتحدة في فيتنام قبل نصف قرن، وتعيش أوروبا منذ فترة طويلة العواقب المباشرة للعملية العسكرية الفاشلة في أفغانستان، والآن عندما تتراجع الولايات المتحدة سيتعين عليها أن تخشى من موجة جديدة من اللاجئين وزيادة التهديدات المسلحة الموجهة لها ولحلفائها.
فقد اتخذت الولايات المتحدة خيارها الاستراتيجي، وليس لدى حلفائها الأوروبيين خيار سوى الاستمرار في اتباع نهج واشنطن، ستركز أمريكا على احتواء الصين وروسيا، وهما خصمان رئيسيان في الصراع للحفاظ على نظام عالمي موالٍ للغرب.
السيناريو الأخطر للغرب
السيناريو الأخطر بالنسبة للغرب هو تحالف الصينيين والروس مع الشرق المناهض للغرب، والذي ستنضم إليه إيران، والقوة الإقليمية المتنامية حيث عانى حلف الناتو من أسوأ الهزائم في تاريخه، لذلك سيتعين على المجتمع الدولي أن يتصالح مع سوء تقدير الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق.
ستكون القوة الرائدة في المستقبل في أفغانستان هي منظمة شنغهاي للتعاون، التي تروج لها بكين وموسكو، والتي تضم في عضويتها دول آسيا الوسطى والهند وباكستان بالإضافة إلى إيران وتركيا كمراقبين، تمثل هذه الدول أورآسيا الجديدة، والتي تجاهلها الغرب دائماً، فيمكن لمنظمة شنغهاي للتعاون الاعتماد على الجناح العسكري للاتحاد الأوراسي ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) والتي تعد اليوم الدرع الأكثر أهمية لدول آسيا الوسطى.
نهاية الأحادية
ففي الوقت القريب يبدو أن الفشل الذريع في أفغانستان سيؤثر فقط على السياسة الداخلية الأوروبية والخوف من تكرار أزمة هجرة جديدة، لذلك لن يكون بمقدور الناتو والاتحاد الأوروبي بعد الآن تجنب التعاون الأمني مع منظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي لأن من المستحيل تعزيز استراتيجية الاتحاد الأوروبي في آسيا الوسطى بدون التعاون القوي مع هذه المنظمات، وسيحتاج الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إلى مقاربة جديدة للتعاون الجيوسياسي مع جميع القوى الإقليمية حول القضية الأفغانية باستراتيجية جديدة تختلف عن التدخل العسكري لتقوية نفوذها.
لذلك يعتبر انسحاب الغرب من أفغانستان دليلاً على أن النظام الغربي أحادي القطب الذي ظهر بعد انهيار الاتحاد السوفييتي قبل ثلاثين عاماً يقترب من نهايته، فالنظام العالمي متعدد الأقطاب أصبح حقيقة واقعة، وسوف تملأ الصين وروسيا الفراغ الذي خلفه الغرب في وسط آسيا والشرق الأوسط بسرعة كبيرة جداً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.