"لن أبيع صوتي، فقدت الثقة، يكذبون علينا، لن أشارك في مسرحية الانتخابات…" عبارات وأخرى يفسّر من خلالها المواطنون الذين اختاروا مقاطعة الاستحقاقات البرلمانية والبلدية التي يشهدها المغرب اليوم الأربعاء 8 أيلول/سبتمبر، موقفهم من هذه الانتخابات والأحزاب السياسية.
في الوقت الذي ينتظر فيه الناخبون يوم الاقتراع من أجل التصويت والمشاركة في اختيار الأحزاب التي تشكل الحكومة الجديدة والبرلمان والمجالس المحلية، شارك المقاطعون أصواتهم خلال الأسبوعين اللذين سبقا هذا اليوم بالتزامن مع الحملات الدعائية للأحزاب والسلطة.
وسم تصدر التريند المغربي تحت عنوان "مامصوتينش"، وتقارير إعلامية عكست قرار فئة واسعة من المجتمع المغربي مقاطَعة الانتخابات الأخيرة، إضافة إلى استطلاعات رأي غير رسمية على حسابات المشاهير في إنستغرام، والتي كان آخرها استطلاع فنان الراب "دون بيغ" الذي عبرت فيه نسبة 92% من المستطلعين عن رغبتها في المقاطعة، مقابل 8% فقط للذين فضلوا التصويت.
وفي استطلاع أعلنه المدوّن مصطفى الفكاك، المعروف باسم "سوينغا"، تجاوزت نسبة المؤيدين لمقاطعة الانتخابات 85% مقابل نسبة 14% للمصوتين، كما بلغت نسبة الذين لا يثقون بالأحزاب المغربية من المشاركين في استطلاع رأي للممثلة المغربية مريم باكوش 91%، مقابل نسبة 9% للذين اختاروا دعم الأحزاب في الاستحقاقات القادمة.
يقول قائل إن هذه الأرقام لا أهمية لها ما دامت تفتقر لصفة الرسمية، ولا يمكن الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي في جس نبض المجتمع واستخلاص موقفه من قضية ما. لكنها أرقام لا يمكن تجاهلها خاصة عندما يتعلق الأمر بحسابات مؤثرين يتجاوز كل واحد منها مليون متابع، مع غياب استطلاعات رأي مماثلة تُظهر نتائج معاكسة.
أصبحت فئة واسعة من المغاربة مقتنعة اليوم أكثر من الأمس بأن الحكومة في المغرب لا تحكم؛ فكل المؤشرات تؤدي إلى هذه القناعة، بداية من حرص مكونات الحكومة على تنفيذ برامج مناقضة لوعودها في الانتخابات، وتحكُّم المؤسسة الملكية في معظم السلطات
أما عند استحضار نتائج الاستحقاقات التشريعية في 2016 التي لم تتجاوز نسبة التصويت فيها 29% مقابل نسبة 70% للمقاطعين (6.751 مليون مصوت من أصل 23,211 مليون مغربي يحق لهم التصويت)، تدرك حينها أن خيار المقاطعة ليس مجرد تدوينة أو تغريدة على مواقع التواصل، بل وعي تتسع دائرته من موسم انتخابي إلى آخر.
فما هي الأسباب التي ساهمت في اتساع هذه الدائرة منذ الانتخابات التي تزامنت مع موجة الربيع العربي عام 2011 وشهدت، للمرة الأولى في تاريخ المغرب، فوز حزب العدالة والتنمية (إسلامي) وقيادته الحكومةَ لولايتين متتاليتين؟
أذكر ثلاثة منها في هذا المقال على سبيل المثال لا الحصر.
تناقضات الأحزاب
من أبرز ما قد يضعف ثقة المواطن بالأحزاب تراجع موافقها أو التخلي عن الثوابت بعد الانتقال إلى المناصب الحكومية، وهذا ما حدث مع حزب العدالة والتنمية بعد تورطه في تناقضات كبيرة شملت حتى خطابه المرجعي، وهو ما يضعه في موقف الانتهازي الذي يستغل الأيديولوجيا الدينية أو مطالب الشعب من أجل الفوز بالانتخابات، ليتخلى عن كل شعاراته الحزبية فيما بعد من أجل براغماتية سياسية يغيب عنها المنطق.
ومن بين هذه التناقضات التي سقط فيها حزب العدالة والتنمية توقيع أمينه العام على اتفاق التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي بصفته رئيساً للوزراء، وهو الذي لطالما اعتبر التطبيع جريمة في حق الشعب الفلسطيني، ولم يكن التناقض الأول أو الأخير؛ ما يثبت أنه لا وجود لأي جدوى من انتخابات يتخلى فيها المكون السياسي عن وعوده وأدبياته عقب خوضها بمبرر "الإصلاح من الداخل" الذي لم يتحقق.
مواجهة الشارع
الوقوف في وجه الحراكات الاجتماعية، واحتجاجات المعلمين والطلبة والأطباء وغيرهم من قبل أحزاب الأغلبية الحكومية، أحد أسباب تراجع الثقة الشعبية بها.
فالتدخل الأمني العنيف في حق المتظاهرين بالحسيمة عام 2017 (حراك الريف)، بعدما أصدرت أحزاب الأغلبية بلاغاَ تهاجم فيه الحراك وتتهم نشطاءه بالعمالة وتلقي أموال من الخارج، والمس بمؤسسات الدولة والترويج للانفصال، أظهر للمواطن أن الانتخابات لن تنتج له إلا أحزاباً تعيق تحقيق مطالبه ليس بالتخلي عن الوعود فقط بل بضمان الغطاء السياسي لاستعمال الدولة العنف في مواجهة الشارع، في الوقت الذي من المفترض أن تتبنى فيه مطالبه الاجتماعية المشروعة وتحرص على تحقيقها.
فضلاً عن التعنت الذي واجهت به الحكومة عدداً من الملفات الفئوية، أبرزها كان على مستوى قطاعي التعليم والصحة الذين لم يسلما أيضاً من القمع والعنف، إضافة إلى الزيادة في الأسعار، وغير ذلك من القرارات التي تستهدف مصلحة المواطن.
حكومة لا تحكم
أصبحت فئة واسعة من المغاربة مقتنعة اليوم أكثر من الأمس بأن الحكومة في المغرب لا تحكم؛ فكل المؤشرات تؤدي إلى هذه القناعة، بداية من حرص مكونات الحكومة على تنفيذ برامج مناقضة لوعودها في الانتخابات، وتحكُّم المؤسسة الملكية في معظم السلطات، إضافة إلى العلاقة بين صاحب المنصب المنتخب مثل رئيس الجماعة والعمدة، وما يقابله من المناصب التي يجري تعيين أصحابها من قبل الملك مثل العامل والوالي، ثم إقرار رئيس الوزراء السابق عبد الإله بنكيران بذلك في أكثر من تصريح قائلاً: "إن الحكومة لا تحكم".
هذه القناعة تضع علامة استفهام أمام الجدوى من انتخابات في بلاد لا يتوفر فيها المنتخب، الذي من المفترض أن يحاسب من قبل الشعب، على صلاحيات كافية، ما يجعل المغرب في أمس الحاجة إلى نظام لطالما طالب به فاعلون ومكونات سياسية وحقوقية في عدة مناسبات؛ ملكية برلمانية يسود فيها الملك وتكون له صلاحيات محدودة، بينما تتكلف الحكومة بأبرز صلاحيات تدبير شؤون الدولة.
حينها فقط سيكون للانتخابات الديمقراطية معنى وقيمة.
أما إن استمر الوضع على الحال السياسية التي يعيشها المغرب اليوم، فإنه سواء رحلت حكومة وجاءت أخرى، وسواء اشتغل فيها أصحاب النزاهة والمروءة أو غيرهم من المفسدين فإن الواقِعَ لن يتغير إطلاقاً، بالرغم من اتهامات الفشل أو الفساد التي يوجهها البعض منهم للبعض الآخر خلال الحملات الانتخابية وهم أعضاء في التحالف الحكومي نفسه الذي نال سخط المغاربة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.