لم يتطلَّب الأمر في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 إلا ساعتين من الفوضى، وأربع طائرات مختطفة من أجل الوصول إلى نتيجة مفادها أنَّ أمريكا في حرب مع عدو جديد ذي امتداد عالمي.
هذا هو ما قالته شبكة CNN الأمريكية، وهذا هو أيضاً ما كتبته أصوات تقدمية مثل صحيفة The Guardian البريطانية في اليوم التالي، وكان الرأي العام على كلتا ضفتي المحيط الأطلسي عملياً يعتبر قول أي شيء مخالف عملاً من أعمال الخيانة.
كانت باربرا لي عضوة الكونغرس الوحيدة قبل 20 عاماً التي تقف في مجلس النواب وتناشد زملاءها ألا يمنحوا الرئيس جورج بوش الابن صكاً على بياض.
فقالت لهم النائبة عن الدائرة التاسعة للكونغرس في ولاية كاليفورنيا بعد أيام من الهجمات: "دعونا نتوقف لدقيقة واحدة ونفكر ملياً في تداعيات أعمالنا اليوم كي لا يخرج هذا الأمر عن السيطرة".
وكان صوتها هو الصوت الوحيد بـ"لا" ضد "تفويض استخدام القوة العسكرية"، الذي وافق عليه مجلس النواب بأغلبية 420 صوتاً مقابل صوتٍ واحد. وتلقَّت النائبة تهديدات بالموت، ووُصِفَت بالخائنة، ومن ثَّم عُيِّن لها حارسٌ شخصي من شرطة الكونغرس.
حقيقة خفية
تحولت أهوال ذلك اليوم على الفور إلى قبضة عسكرية حصدت المزيد والمزيد من الأرواح. لقد خلقتْ "11 سبتمبر/أيلول" واحدة فقط مئات الـ"11 سبتمبر/أيلول".
كانت إحدى السمات المدوية لما تُسمَّى بـ"الحرب على الإرهاب" التي استمرت 20 عاماً بعد ذلك هي وجود محاولة منسقة من جانب كل حكومة متورطة لإخفاء الحقيقة بشأن ضحايا هذه الحرب، كانت تلك الآلاف المُؤلَّفة تعيش حياة بريئة تماماً مثلما كان ركاب الطائرات الأربع والأشخاص الذين كانوا في مركز التجارة العالمي والمستجيبون الأوائل في مانهاتن.
استمر هذا حتى الأيام الأخيرة من الاحتلال الأمريكي لأفغانستان. فحين فجَّر انتحاريّ تابع لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" نفسه عند بوابات مطار كابول، قُتِلَ أكثر من 170 شخصاً. وقد تقبلت كل وسائل الإعلام تقريباً -ولا تزال- قصة أنَّ أولئك الناس قُتِلوا على يد الانتحاري فقط.
صحفي واحد بشبكة BBC البريطانية لم يتقبل ذلك، وحاور الناجين. فغرَّد سيكوندر كرماني: "قال الكثير ممَّن تحدثنا إليهم، بما في ذلك شهود عيان، إنَّ أعداداً كبيرة من أولئك الذين قُتِلوا قد أُردوا قتلى على يد القوات الأمريكية المذعورة بعد الانفجار". كم من الأفغان المتراصين في صفوف من أجل دخول المطار قُتِلوا في معركة الأسلحة النارية التي تبعت ذلك؟ لم يَبنِ أحد على تقريره.
بالمثل، أصرَّت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) على أنَّها أصابت الهدف الصحيح حين دمَّرت، في ضربة عسكرية "دفاعية"، سيارة محشوَّة بالمتفجرات على وشك التحرك باتجاه المطار، على حد زعمها، يقودها منتمون لتنظيم "داعش- ولاية خراسان" (فرع داعش الرسمي النشط في أفغانستان). وحين اتضح أنَّ 10 أشخاص من أفراد عائلة واحدة، بينهم 7 أطفال، قُتِلوا في الانفجار، قال البنتاغون إنَّهم لربما قُتِلوا جرَّاء الانفجارات الثانوية.
وقال أحد الأشقاء الناجين: "لسنا تنظيم الدولة ولا داعش، وكان ذلك منزلاً عائلياً، كان يعيش فيه إخوتي مع عائلاتهم".
وقال الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، إنَّ الانفجارات الثانوية بعد غارة الطائرة بدون طيار الأحد الماضي تدعم الاستنتاج بأنَّ السيارة كانت تحتوي على متفجرات. لكنَّ تحليلاً أولياً لاحقاً، تحدثت عنه صحيفة The New York Times الأمريكية، كان أقل ثقة، وقال إنَّه فقط "من الممكن إلى مُرجَّح" أنَّ المتفجرات كانت في السيارة.
في الواقع، لقد بُذِلَ كل جهد على مدار السنوات العشرين الماضية لإخفاء الحقيقة. وهذه ليست إحدى ضحايا الحرب، بل سياسة متعمدة لهذه الحرب على الإرهاب لتزييف الأرقام، مثل العمل الذي قام به مكتب التأثير الاستراتيجي بوزارة الدفاع الأمريكية.
يُقدِّر مشروع "تكاليف الحرب" بجامعة براون الأمريكية أنَّ ما يصل إلى مليون شخص فقدوا حياتهم في "الحرب على الإرهاب". وقدَّر تقرير حديث أنَّ ما بين 897 ألفاً و929 ألف شخص -بينهم 387072 ألف شخص على الأقل من المدنيين- قُتِلوا. لكن حتى هذه الأرقام يُعتَقَد أنَّها "أقل بفارق هائل" من حصيلة الأرواح البشرية التي حصدتها الحروب في أفغانستان والعراق واليمن ومناطق أخرى.
وفي عام 2015، قدَّرت منظمة "أطباء من أجل المسؤولية الاجتماعية" في الولايات المتحدة أنَّ أكثر من مليون شخص قُتِلوا بشكل مباشر أو غير مباشر في الحروب في العراق وأفغانستان وباكستان وحدها.
والأرقام الأخرى الواردة أيضاً في التقرير السابق لجامعة براون ليست أقل رعباً، إذ يُقدَّر أنَّ 37 مليون شخص قد نزحوا. لقد دمرت الحرب على الإرهاب، التي لم تُحدَّد أهدافها قط وكانت بلدانها فقيرة ومسلمة وعاجزة عن الدفاع عن نفسها، منطقةً كاملة في غرب آسيا.
استنتاجات مُدِينة
ظهر تقرير آخر بالكاد حظي بتعليقات وسط صور وأخبار الإرهاب الأفغاني عند وصول طالبان إلى كابول والرسائل المتكررة بأنَّ الرئيس الأمريكي جو بايدن قد خان الأفغان الذين عملوا مع المحتلين، أو في نظر طالبان تواطؤوا معهم. كان هذا التقرير من مصدر أمريكي رسمي: المفتش العام الأمريكي الخاص بإعادة إعمار أفغانستان. كان لهذا المفتش العام ولاية على كافة البرامج والعمليات التي دُفِعَت تكاليفها بالدولار الأمريكي على مدار السنوات العشرين الأخيرة.
كانت استنتاجاته مُدِينة، إذ انطوى كل هدف استراتيجي على نقيضه؛ فأرادت الولايات المتحدة اقتلاع الفساد، لكنَّها أيضاً أرادت تنشيط الاقتصاد بضخ مليارات الدولارات فيه، وأرادت القضاء على ثقافة الإفلات من العقاب، لكنَّها أيضاً أرادت الحفاظ على الأمن، حتى لو كان ذلك يعني تمكين الفاعلين الفاسدين أو النهَّابين.
أرادت منح قوات الأمن الأفغانية أفضلية تنافسية في مواجهة طالبان، لكنَّها أيضاً أرادت الحد من المعدات والمهارات التي يمكنها الاحتفاظ بها بعد الجلاء الأمريكي. وأرادت تقليص زراعة الخشخاش، لكنَّها أرادت فعل ذلك دون حرمان المزارعين من دخلهم، وهكذا دواليك، لقد أصبحت الاستراتيجية عبارة عن تدمير متبادل مؤكد.
إنَّ الصورة التي يرسمها المفتش العام هي صورة لقوة استعمارية لم تعد صالحة لهذا الدور.
لم يكن لدى أمريكا الذكاء أو المعرفة المحلية أو القدرة لحكم ما أصبح يمثل تبعية أمريكية في الجانب الآخر من العالم. وقد وصف وزير الخارجية الإيراني المنصرف، محمد جواد ظريف، على نحو مفيد عجز الغرب عن فهم العالم الإسلامي بأنَّه "تنافر معرفي". وهذه طريقة مهذبة لقول إنَّ الغرب كان يعيش في عالم آخر.
بعد 20 عاماً من الاحتلال، لربما كنتم تظنون أنَّ الاستخبارات العسكرية الغربية باتت تدرك معنويات الجيش الأفغاني، الذي درَّبته، إدراكاً أفضل. ولن يكون القول بأنَّ طالبان نفسها كانت متفاجئة شأنها شأن الجميع من مدى السرعة التي دخلت بها كابول، وهو ما يُقَال الآن، عذر مقبول، فالمهمة الأساسية للانسحاب الأمريكي كانت ضمان عدم انهيار الدولة التي سيتركها وراءه.
ولا عجب أنَّ الجيش الأفغاني، الذي بلغ تعداده 300 ألف رجل "مُجهَّزين ومُدرَّبين جيداً"، قد انهار أمام تقدُّم جيش متمرد يبلغ تعداده 70 ألفاً.
لا مساءلة
وَسِمة أخرى لهذه الحرب على الإرهاب، فضلاً على طولها وخسائرها المروعة وأكاذيبها، هي أن المسؤولين عنها لم يُحاسبوا على هذه القرارات التي اتخذوها أو اعتذروا عنها.
لا جورج بوش الابن، ولا رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ولا الجنرال ديفيد بتريوس ولا الجنرال ستانلي مكريستال، قائد القوات الخاصة، الذي تفاخر يوماً بقدرته على "انتزاع الديمقراطية من ظهر طائرة شينوك".
وقد أقيل مكريستال بعد حديثه مع مجلة Rolling Stone، لا بسبب الدمار الذي ألحقه بأفغانستان، ولكن لأنه لم يُبدِ الاحترام الكافي للرئيس باراك أوباما، الذي كان آنذاك قائده العام. واليوم لا يُبدي ماكريستال ندماً. وقال لصحيفة The Washington Post إنه "من السابق لأوانه" الخروج باستنتاجات.
وأقر بأن محصلة هذه الحرب "مخيبة للآمال"، لكنه أضاف: "لا أعتقد أن هذا يعني بالضرورة أن العديد من القرارات المتخذة والاستراتيجيات المتبعة كانت خاطئة. بل أرى أنها في كثير من الحالات كانت أفضل ما يمكن تنفيذه".
ومكريستال عضو مجلس إدارة أو مستشار لما لا يقل عن 10 شركات.
الغطرسة والثروة إذاً، لا الشعور بالخزي والمهانة، هما ما يميزان حياة مهندسي الحرب على الإرهاب اليوم. إذ يُعامَل بلير على أنه رجل دولة حكيم وكثيراً ما تستشهد هيئة الإذاعة البريطانية BBC بتحليلات مؤسسته. وبعيداً عن محاسبتهم على أخطائهم، يسوق هؤلاء الأشخاص لأنفسهم على أنهم رموز فكرية. وما زالوا يجنون مبالغ كبيرة من المال.
والإمبراطوريات لا تندثر حين يقر قادتها بأخطائهم. ولكنها تندثر حين لا يعودوا يتمتعون بالمصداقية. وهكذا الحال في يومنا الحاضر، فخسارة أمريكا لمصداقيتها في عهد الرئيسين جو بايدن ودونالد ترامب تعني أن الوحش الجريح للقوة الأمريكية سيستمر بالدرجة نفسها من الوحشية.
الإفلات من العقاب سيستمر
في حين أن أفغانستان نفسها قضية خاسرة للغرب، فمرور ضربات الجيش الأمريكي الجوية دون حساب سيستمر.
وكذلك سيستمر تنظيم الدولة الإسلامية-فرع خراسان، أو أي فرع آخر ينشأ من تنظيم القاعدة، في العمل. فلم يؤثر غزو أفغانستان قبل 20 عاماً تأثيراً ملموساً على قدرات تنظيم القاعدة على شن هجمات على أهداف غربية. ولا توجد أدلة كثيرة أيضاً على وجود صلة مباشرة بين تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والعمليات الإرهابية في فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا، رغم المجهود الهائل الذي يبذله المدعون الفرنسيون أو البريطانيون في الخروج بواحد. وأصبح الإرهاب المزعوم باسم تنظيم داعش أو تحت لوائه في أوروبا محلي المنشأ بدرجة كبيرة.
وقد واصل أسامة بن لادن نشاطه لعشر سنوات كاملة بعد غزو أفغانستان، وعاش متخفياً في بلدة عسكرية في باكستان. ولم يمنع الغزو كذلك من أن يصبح أبو مصعب الزرقاوي خليفته الأشد عنفاً وطائفية.
ولا يقتصر الأمر على حقيقة أن الحرب على الإرهاب أنتجت إرهابيين أكثر مما قتلت. بل إن الإرهاب أصبح الأداة القياسية والمقبولة لجميع المشاركين فيها، لا سيما مشغلي الطائرات المسيرة.
وأشد ما يحزن هو أنه لا يبدو أن أحداً تعلم شيئاً من حرب مدمرة استمرت عشرين سنةً دون أن تسفر عن شيء.
قد ارتفعت أصوات قليلة تنادي بالمساعدة التي ستحتاجها أفغانستان المنكوبة والمدمرة. فقريباً سينفد منها الطعام والمال. ولكن يبدو أن القادة الغربيين يهتمّون بالتعامل مع حركة طالبان "الإسلامية" بالطريقة نفسها التي تعاملوا بها مع جمهورية إيران الإسلامية. فحين يتوقف القتال في الحرب على الإرهاب يأتي "السلام" في شكل عقوبات. وقال الاتحاد الأوروبي من جانبه إنه لن يعترف بحكومة أفغانستان وستظل طالبان على القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية.
وكانت الخطوة الأولى التي اتخذتها إدارة بايدن هي حجب الحصول على 9.5 مليار دولار من أموال الاحتياطي الدولي والضغط على صندوق النقد الدولي لتعليق توزيع أكثر من 400 مليون دولار من الاحتياطي النقدي. وتقول إنها بحاجة إلى ورقة ضغط، ولكنها في القريب العاجل ستقدم مساعدات لحوالي 30 مليون أفغاني بالتأكيد.
تكرار الأخطاء نفسها
نادراً ما نرى أحداً يقول إن الرحيل من أفغانستان يعني أننا نواجه خطر تكرار الأخطاء نفسها التي ارتكبناها في التسعينيات.
يقول مستشار الأمن القومي الباكستاني، معيد يوسف، لصحيفة The Times: "تذكروا كلامي، إذا ارتُكبت أخطاء التسعينيات مرة أخرى وتخلينا عن أفغانستان، فالنتيجة ستكون نفسها تماماً، فراغ أمني تملأه عناصر غير مرغوب فيها تهدد الجميع، باكستان والغرب".
فهذه الحرب على الإرهاب لم يفز بها عدو محدد يتمتع بمهارات فائقة. لقد كانت هدفاً ضخماً في حد ذاتها، لقد صُممت لتكون التمثيل المطلق لقيادة العالم، والتفوق التكنولوجي والأخلاقي للحضارة التي تصرفت كما لو أنها الوصي الوحيد على القيم الديمقراطية، وبالتالي يحق لها أخلاقياً حفظ النظام في العالم. وانهيار الحرب على الإرهاب يبدو مرثية مناسبة لما خلص إليه الجميع في الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهو أن طرفاً قد انتصر، فكيف تبدو طبيعة "النصر" الآن؟
يقول أحد المحللين في صحيفة The New York Times إننا لم "نرسخ الديمقراطية" بدفع حدود الناتو شرقاً. بل دفعنا خط المواجهة شرقاً. وقد كررنا هذا الخطأ كثيراً خلال العشرين عاماً الماضية.
ولا يزال يتعين علينا إعادة دراسة مفهوم القيادة العالمية، ناهيك عن تنظيمها وفقاً لمبادئ الجماعية. وفي الصين، وروسيا شريكتها الصغرى، لن يحل محل القرن الأمريكي شيءٌ أسمى.
إذا وعينا دروس هذا الفشل الذريع، الذي كان ثمنه دماء الملايين، فيفترض أن يتوقف حديث القرن التاسع عشر عن نطاقات النفوذ، أو العقلية الاستعمارية لصراع الحضارات والقيم. فقد فات أوان ذلك، مهما بلغ إيمان الأمريكيين بنهج الاستثنائية أو ممارستهم لمبادئه.
فمنذ نهاية الاتحاد السوفييتي حتى الآن ورثت أمريكا ما لا يقل عن ثلاثة شعوب في البلدان التي إما انهارت أو غزتها، روسيا وأفغانستان والعراق؛ وهي شعوب كانت مؤيدة للغرب تأييداً مطلقاً لكن الولايات المتحدة حولتها إلى دول معادية ضمناً أو علناً.
والعراق سيكون الدولة التالية التي تطرد الجنود الأمريكيين. وفي المناطق الثلاث التي تمتعت فيها أمريكا بحرية أن تفعل ما تشاء هزمت نفسها، وكانت حركة طالبان والقاعدة وداعش العوامل المحفزة لانهيارها.
لقد انتهى أمر أفغانستان. ولكن إلى أن نتعلم هذا الدرس، فالحرب على الإرهاب ستستمر بالتأكيد.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.