تعيش المنطقة والإقليم اتصالات معلنة وغير معلنة بين أطراف إقليمية متصارعة فيما بينها لاكتشاف مواضع الأقدام فوق أرض متحركة، ووفق سعي حثيث لخفض التوترات خشية ما قد يحدث في المستقبل القريب.
والشرق الأوسط ومحيطه وصولاً لأفغانستان في مرحلة تأهب، وفي انتظار لانسحاب تقترب مواعيده للقوات الأمريكية من العراق بعد ترك الساحة الأفغانية لحركة طالبان، حيث لم يكن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان حدثاً عابراً في المنطقة الملتهبة، وعليه فإنه ووفق نفس النظرة الاستراتيجية لواشنطن التي بررت الانسحاب من أفغانستان ستجد مسوغات للانسحاب من العراق تدريجياً.
ومقدمات وشواهد الانسحاب من العراق باتت واضحةً من حيث الترتيبات الأمنية والسياسية وتحضير الرأي العام الأمريكي الذي بات يرفع صوته مطالباً بالانسحاب ولو على حساب الحلفاء، الذين بات واجباً عليهم حماية أنفسهم بأنفسهم.
لبنانياً يعتقد بعض المتابعين أن يكون قد حدث اتفاق في الكواليس بين واشنطن وطهران يتعلق بالواقع على الساحة اللبنانية. خاصة أن هنالك مَن يقول إن الأمريكيين رضخوا لشروط إيران بعدما فشلت في عهد دونالد ترامب لإخضاع حزب الله بالحصار والعقوبات ووقف الدعم، وتالياً قرّرت التعاون مع الجهة الأقوى في المشهد المحلي.
وهذا يعني وجود فرصة لإيران لتشكيل حكومة تتمتع فيها بالغلبة والأكثرية المطلقة، ولهذا الأمر يقوم جبران باسيل برفع السقوف ما دام حليفه فرض مجموعة مسارات في المنطقة، بدءاً من إحباط ثورة 17 تشرين، وصولاً لتمييع المبادرة الفرنسية وليس انتهاء بجلب البواخر النفطية من طهران، وسط غض نظر أمريكي.
انسحاب واشنطن.. من يحصد ثمرة الوكالة؟
وفقاً لمرجع دبلوماسي فإن ما يجري في المنطقة يعني أن الشرق الأوسط دخل في مرحلة جديدة بعد الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان، يليه من العراق والخليج مستقبلاً. ولقد اتّضح أنّ كثيراً من الأمور كان مُخططاً لها، كمثل ترك هذا الكم الهائل من الأسلحة الثقيلة والذخائر المتنوعة.
قد يكون الانهيار السريع للجيش الأفغاني جاء مخالفاً للتوقعات، وهو ما جعل الإخراج الذي أحاط بعملية الإجلاء سيئاً إلى حد بعيد، لكن الجوانب الباقية كانت متوقعة سلفاً، وليس من المبالغة القول إن مرحلة ما بعد الانسحاب ستفتح أبواب جهنم ولمرحلة طويلة. ستنشغل الدول المحيطة بأفغانستان بالحرائق المتتالية التي ستتسبب بها التيارات المتطرفة، التي ستستعيد نشاطها انطلاقاً من الحضن الأفغاني، والتي ستحاول التمدد في اتجاه الدول المجاورة وصولاً لإعادة تفعيل حضورها في الشرق الأوسط، بعد انهيار داعش في العراق وتدجين النصرة في سوريا.
وفقاً للمرجع الدبلوماسي فإن هذا السباق المحموم للمصالحات والتسويات والاتصالات بين قوى إقليمية كان من المستحيل تخيّل تواصلهم بالمدى المنظور، حراك طحنون بن زايد باتجاه تركيا وقطر والتفاعل الإيجابي للأتراك مع المصريين، وحرصهم على مصالحة السعوديين، الدور الذي تلعبه الدوحة في ملفي اليمن وأفغانستان بدعم خليجي، حوار إيراني-سعودي وحوار قريب بين الأتراك والسوريين في بغداد برعاية الرئيس مصطفى الكاظمي، كل هذه التحركات هي في إطار تأمين جو إقليمي هادئ يمهد لما بعد الانسحاب الأمريكي في المنطقة.
في العلاقة الأمريكية-الروسية يؤكد المرجع أن موسكو وواشنطن يملكان في سوريا أوراقاً تفاوضية قبيل جولة الحوار الجديدة بين الطرفين في الأيام المقبلة، بمشاركة مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي بريت ماكغورك، ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فريشينين، والمبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرينييف. وهي الجولة الأولى عقب تطورات المشهد الأفغاني، الذي يعني الطرفين على حد سواء، حيث ستذهب أبعد من الجولة السرية السابقة التي عقدت في جنيف خلال يوليو/تموز المنصرم، التي أسفرت عن اتفاق اعتُبر تاريخياً حول مسودة قرار المساعدات الإنسانية في سوريا.
بالنسبة لموسكو، فهي تتحرك في الخريطة السورية المعقدة لتقديم نفسها كمفاوض أساسي بين الأطراف المتصارعة -تركيا وإيران والعرب- والضربة التي وجهتها طائرة حربية روسية على معسكر فصيل سوري معارض موالٍ لتركيا في ريف حلب، لم تكن عرضية. كعادتها موسكو لا تلوح بالغارة، بل تقصف كي تحصل على تنازل. حصل هذا في بداية العام الماضي، وعندما تم ضرب موقع لجنود أتراك جنوب إدلب، للضغط على الأتراك قبيل كل لقاء مرتقب بين الرئيسين بوتين وأردوغان.
فيما بالنظرة الأمريكية المعقدة، فسوريا ليست في الأولويات على الرغم من الرسائل التي وجهها القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى جو هود خلال زيارته المفاجئة إلى محافظة القامشلي السورية، الذي أكد أن بلاده لن تنسحب من شمال شرقي سوريا كما فعلت في أفغانستان وقد تفعل في العراق.
وخاصة أن الحضور الأمريكي في سوريا مرتبط بمواجهة داعش، فيما الرغبة الأمريكية للانسحاب من أفغانستان والعراق توازي الرغبة للبقاء في سوريا، وخاصة أن بايدن لا يود الظهور بمظهر المتراجع أمام موسكو، معطوفة على رغبة إسرائيلية ببقاء الحضور الأمريكي في سوريا.
يعتقد المرجع الدبلوماسي في نقاشه المفتوح أنه لولا دعم إيران الاستراتيجي سياسياً واستخباراتياً لواشنطن في 2001 لَمَا تمكنت أهم قوة في العالم من التغلب على القاعدة وطالبان حينها، ولولا نفس الدعم لما حدث مثيله مع صدام وحكمه في العراق، لذا فإن المرجع يعتقد أنه في المكان التي تدخل إليه الولايات المتحدة تكسب إيران وتسجل نقاطاً، فيما المكان الذي تخرج منه واشنطن تكسب تركيا ومعها حلفاؤها القطريين كما جرى اليوم في أفغانستان.
وكما هو موجود في سوريا والتقهقر الذي مُنيت به المجموعات الكردية في سوريا، والذي سيحصل بالخروج من العراق، لذا فإن الكاظمي سارع بدعم عربي لمصالحة النظام السوري مع الأتراك، والاعتراف أن أنقرة رغم كل عثراتها الاقتصادية والسياسية فإنها طرف قوي لا يمكن الاستغناء عنه.
لبنان المحكوم بالفراغ والنكايات
لبنانياً يعتقد المرجع أن حزب الله حسم مسألة استيراد باخرة النفط الإيراني المحملة بالنفط، حيث سترسو على الساحل السوري في بانياس، وسيتم نقلها عبر الصهاريج إلى لبنان، في محاولة للتهرب من عقوبات محتملة، في المقابل تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على توفير مقومات استيراد لبنان الغاز من مصر، والكهرباء من الأردن، وتبحث واشنطن في آلية منح لبنان إعفاءات من عقوبات قانون قيصر.
وعليه، يعتقد الرجل أن واشنطن تستعجل ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، والبدء بعملية التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية.
فيما النقاش الدائر والذي خرق جدار النقاش اللبناني أن المرحلة باتت توجب البحث في تطبيع العلاقات الاقتصادية مع نظام الأسد، فلا بد لذلك من أن يقترن بعملية ترسيم الحدود اللبنانية-السورية براً وبحراً. وهذا يتقدم على ما عداه من مسائل حدودية، ويعتقد أن هذا الملف في أساس كل المفاوضات السرية المرتبطة بتشكيل الحكومة.
والتطبيع اللبناني مع السوريين، وإجراء مفاوضات لترسيم الحدود معها، بحاجة لاتفاق ضمني بين موسكو وواشنطن، وهذا ما سيجري نقاشه في القمة المرتقبة بين الجانبين، فيما لا يمكن لإسرائيل أن تكون بعيدة عنه. وبعض إرهاصات هذا التوافق الضمني بدأت تظهر في أزمة درعا، وقد تنسحب لاحقاً على بيروت.
حكومياً، يعتقد المرجع أن الرئيس ميشال عون لن يُشكل حكومة، ما دام أنه لن يحصل على ما يُسمى "بالثلث المعطل"، وحقائب تمنحه حق السيطرة على قرار البلاد، وخاصة أن الحكومة ستُشرف على استحقاقات مهمة، كالانتخابات النيابية والتفاوض مع الصناديق الدولية، وتسيير أمور البلاد في ظل فراغ دستوري، وإلا فإن نقاشاً بدأ بالتسرب حول إمكانية بقائه في القصر، وهذا الأمر يعني العودة عقوداً للوراء.
يستغرب المرجع من تسخيف الأزمة على أنها أزمة حول وزارة الاقتصاد، فمع عقدة وزارة الاقتصاد، وخاصة أن الأسماء المطروحة لها من طرف الفريق "السني" كالدكتور ناصر ياسين مثلاً هو اسم اختصاصي وأكاديمي، لكن هناك عقد أخرى، تتعلق بالوزير المسيحي "الملك". وهو الوزير المسيحي حامل الرقم 12، والأزمة عند فريق سياسي كالتيار الوطني الحر هي على من سيكون محسوباً سياسياً.
أيضاً عقدة ثانية غير تقنية، ولها علاقة بالمسار السياسي، لا تزال تعيق عملية تشكيل الحكومة، وهي مسألة الثقة، فصحيح أن ميقاتي محكوم بضرورة الحصول على ثقة كتلة المستقبل، لكنه أيضاً يريد الحصول على ثقة كتلة جبران باسيل، ولذلك يوافق على منح رئيس الجمهورية 8 وزراء، أما في حال لم تكن هناك رغبة في منح التيار لحكومة ميقاتي الثقة، فيمكن لرئيس الجمهورية أن يحصل على 4 وزراء فقط.
يخشى المرجع الدبلوماسي من استمرار الفوضى الأمنية، وخاصة أن جهات أمنية بدأت برفع تقارير للجهات السياسية، تتحدث عن التحديات التي تواجهها، والجهات الأمنية تتعامل بدقة متناهية مع الأحداث الخطيرة في كل لبنان، لذا فإن التأخير الحاصل في الحلول السياسية والتقنية سيُضاعف الأزمات والجرائم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.