لن تقف مكتوف اليدين وأنت تشاهد، ولن تكتفي بأكل الفِشار، ستدع كل شيء جانباً، وتنصت بحواسك كلها، ستضحك حين يضحكون، وستشعر بقلبك يبتسم وأنت تراهم في اعترافاتهم الليلية، ولحظاتهم الأشد صدقاً ووفاءً، وأنت ترجو لو كنتَ معهم، تسب اليابانيين وتتمنى لو تبيد قارة آسيا بأكملها، وتبصق صواريخَ فوق غابات فيتنام وتلعن اليوم الذي أتى بك إلى هؤلاء "الـ…"، وتتمنى لو يسعفك الحظ فتمحو "الإرهابيين" عن وجه العراق الجميل، وتشفق على النساء في أفغانستان من هؤلاء "المتشددين" الذين يضعونهن في خيام متحركة، وستضحك حين يُلقي الجندي نكاته على "الهمجيين" العرب. وبينما أنت كذلك، ستشعر بجبهتك تتفصد عرقاً من الشمس الحارقة ما دامت المشاهد خارج الربيع الأمريكي. وفي النهاية ستكون غير بعيدٍ عن الوقوف بإجلال وتقدير للعلم المقلّم بالأحمر -من دماء الشهداء بالتأكيد- والمرصع بالنجوم البيضاء داخل البساط الأزرق، الشهداء أنفسهم حين يصعدون للسماء.
لن تحتاج إلى مشاهدة أكثر من 10 أفلام أمريكية صُنعت في هوليوود، من نوعية أفلام الحرب بالتحديد، أو التاريخ الحربي، لتستطيع توقع الفيلم الحادي عشر، بتفاصيله، ربما تخمّن الممثلين كذلك، تشكيلة الجنود، الخلفيات العرقية والدينية لكل منهم، مَن فيهم سيموت، ومن سيعيش ليخبر زوجة صديقه بآخر ما قاله الراحل عنها، النّكات الملقاة، متى سيجلسون ليتسامروا، خاتمة الفيلم، أمريكا العظمى متمثلة في معنى المسيح المخلص، منقذة الكوكب، إن دخلت أرضاً فلأن أهلها لا يستطيعون حكم أنفسهم، وإن غادرت أرضاً فلأن أهلها لا يستحقون هذه الكرامة، وإن بقيت في أرضٍ فلأنها صارت واحداً من السكان.
على الرغم من تطور الصنعة، وتقدم السينما يوماً عن يوم في آليات الإنتاج، منذ الأخوين لوميير إلى وقتنا هذا على مدار أكثر من 120 عاماً، أبدت العقول تأخراً مقابل الآلة، فتجد كاميرا جديدة كل عامٍ في أفلام الموسم، وتجد رؤى لا تتغير ولو بتغير العالم كله من حولها؛ فما زال العربيُّ يأكل بيده، وما زال المسلمون يعقدون حواجبهم دون تبسم، وما زال الشرق الأوسط غارقاً في البترول بينما لا يملك عقولاً قادرة على استخراجه أو الاستفادة منه، وما زال العالم "غير الأمريكيّ" غير أمريكيٍّ للأسف، لأن "الأمرَكة" هي المقياس المثالي لِأن تكون مواطناً صالحاً بغض النظر عن البلد الذي تعيش فيه.
العالم يثير المتاعب
لتبدأ كتابة السيناريو، يجب أن تكون لديك فكرة، ثم تتطور الفكرة لتلدَ عن يمينها أحداثاً تتسارع، وتلد عن يسارها حبكةً تعطي للأحداث صعوداً وهبوطاً، في حالة كتابتك للفيلم الهوليوودي، أنت لا تحتاج إلى أكثر من فكرة واحدة، أن العالم يسبب المشاكل، حرب على النفط هناك، وحرب على الموارد هنا، ومتطرفون يجرون في الصحراء، وانفصاليون يختبئون في الجبال، ومتمردون سود يحملون السلاح في إفريقيا ويطاردون سفن الشحن التي تحمل مواد إغاثية -ولن تظهر أي سفينة تنقل عتاداً عسكرياً بالتأكيد- ويمارسون هوايتين مفضلتين معاً: يتعاطون المخدرات ويقرصنون البواخر. فضلاً عن المتسكعين نياماً في شوارع ساوباولو، الذين يلعبون الكرة بيد، ويتعاطون أقراص المخدرات باليد الأخرى. وبالتالي فإن واشنطن لا تستطيع النوم ساعةً ولا تكاد ضع رأسها على الوسادة إلا تشاكس هؤلاء جميعاً.
أنت المسيح المُخلّص
الحل الوحيد يكمن في غرفة مظلمة، تتوسطها شاشة عرضٍ ضخمة، يتناقش الجنرالات حول العملية التي كُتبت عليهم وهي كرهٌ لهم، لابد من الذهاب إلى هناك، لإنقاذ الأوضاع، أية أوضاع؟ إنقاذ الشرق الأوسط من الجهاديين الإرهابيين، وتنظيم توزيع المياه في الدول المنكوبة لأنهم يتقاتلون على الشرب، وتحرير النفط من الاحتكار في دول الخليج العربي، والقضاء على تهريب المخدرات بأمريكا الجنوبية، والحرب في العراق؟ لأجل الحرب في العراق لا شيء أكثر، لأن تنظيماً ما قام بعملية إرهابية بحق مواطنينا في برجَي التجارة العالميَّين، وما علاقة الأفغان؟ وما علاقة العراقيين بعدها؟ إنها حرب القضاء على الإرهاب.
كن دائماً كالضابط لورانس في فيلم "لورانس أوف أرابيا".
ملائكة في المكان الخطأ
ستخبرك أفلام الحروب الأمريكية بأن الجنود ناقمون على الحرب، ستتعاطف معهم، ومع السينما الأمريكية حتى، لأن المخرج لم يخدعك، ولأن الحرب للأسف تصنع من الجنود أرقاماً لا أسماء وقصصاً وحكايات، سيجلس الجنود المثخنون في جراحهم بالليل في ضوء القمر، يدخنون آخر أربع سجائر كانت بحوزة أحدهم، ويبكي واحدٌ منهم فيشدون من أزره، ثم يضحكون جميعاً وأنت مبتسمٌ معهم، على رغبتهم في الحياة ليعودوا إلى أوطانهم، سيشتري أحدهم يختاً ويقضي فيه العطلة الصيفية كل عام، وسيمارس أحدهم الجنس مع زوجته بلا توقف، وسيلتقي أصغرهم بأمه أخيراً.
لن يتركك المخرج هنا، وإنما في المشهد التالي مباشرةً ستُستأنَف المواجهات فجأة، ستستعر الحرب، وترى أصدقاءنا ذاتهم يقاتلون كما لم يقاتلوا من قبل، ستشعر ببهجةٍ منقطعة النظير، وقلقٍ شديد، وأنت تتابع حركاتهم، الحمد لله نجا هذا من تلك الرصاصة، والله أكبر قطع الجندي صغير السن رقبة "الآسيوي الحقير" الذي يحمل قلباً جافاً، وهاهم الأصدقاء ينجون، والذي مات منهم سنخرج ورقةً من جيبه، غارقة في الدماء، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وتتمنى أنت ألا يموت، ترجوه ألا يفعل، حتى لو كان تحت قدميه عشرون رأساً لجنود من الطرف الآخر، الذي يقاتلون في بلاده، وعلى حدودها، وتنسى أن الرجل لم يمت في نيويورك، ولم "يستشهد" لتحرير تكساس.
الجندي اليهودي والجندي الأسود
إن كانوا ثلاثة فهو رابعهم، أو خمسة فهو سادسهم، لا بد أن يوجد في الصورة، لا بد أن يكون هناك جندي يضع نجمة داود حول عنقه، ليروي لنا المحرقة التي تعرض لها أجداده، وليبكي في أكثر من موقف، أو يتعرض لسبَّة عنصرية، وبغض النظر عن المسألة برمتها، فإن الابتزاز العاطفيّ الذي تتعرض له في ذلك الموقف، سيضعك في خانة الإجرام إن عارضت تلك الحرب، هو يأخذك من المكان الذي يحاربون فيه -وهو ليس بأرضهم- إلى داخل نفوسهم، والخلفيات التي أتوا منها، يعلم أن الجغرافيا لن تنصفه، فيقفز على التاريخ، ويسجنك في تعاطفك الذي لم تختره.
و"الرجل الأسوَد"، الذي كانت -وما زالت- تمتهن كرامته، حتى ولو على استحياء في نطاق محدود، ببعض رجال الشرطة، أو ممارسات قضائية ظالمة، أو ممارسات فردية، لابد أن تستغله هو الآخر، لتبرز اندماج كل الأنواع والأجناس في الدفاع عن العَلم الواحد، ولابد أن يكون الجنديّ الأسود مقاتلاً صلباً، يدافع عن تلك البلاد بقوة.
الآخر متأخر دائماً
إن كان الأمر متعلقاً بالعلوم، فلا بد أن يكون الآخر غبيّاً لدرجة عدم المواكبة، وإن كان متعلقاً بالأسلحة، فإن الآخر لديه أسلحة عطبة يستخدمها نصف ساعة كاملة، حتى تأتي الطلقة الأمريكية فتشق الجيش المعادي نصفين، وتحرق الحصون وتهدم القلاع وتفعل كل شيء.
وإن كان الأمر متعلقاً بالأكل حتى، فالآخر فقير في مطبخه، يصنع أشياء غريبة، طعمها مقزز، وإن أكله الجنود فلأنهم مضطرون إلى ذلك القرف، ويتغنون بالعودة لأكل ما، تعودوه من وجبات لذيذة طوال حياتهم.
وبالطبع إن أتينا إلى إفريقيا أو الدول العربية، فإن الفيلم سيكون دسماً بالسخرية والكليشيهات على طول الخط، لأن الأمريكيين لديهم اختراع العصر الحديث، هو نفسه اختراع، يكتشفونه وهو يضحك مشفقاً على تأخرهم.
صحراء وجلباب ولحية.. ولا نساء
دع المُشاهد يتخيل البلاد العربية عبارة عن صحارٍ مُقفرة، يسكنها رجال بجلابيب بيض، ولحىً سوداء طويلة، وأعلام تنظيم الدولة في كل مكان، يتنقلون على الجِمال، وبالأحصنة، وأحياناً بالقطار الإنجليزي، في عصور حديثة بعض الشيء، والأصوات عالية، أصوات عربية غير متجانسة، لابد أن تكون متنافرة، كل هذه البلاد عبارة عن سوق مقام في الخلاء، والناس فيه غوغاء، ولا نساء أمامك إلا مجموعة من الخيام السوداء.
العرب إرهابيون
مئات الملايين من البشر، هم إرهابيون، أو مرشحون ليكونوا إرهابيين، لا شيء آخر، لمجرد أنهم يعيشون في بقعة معينة، يراها البيت الأبيض المقر الرئيسي للإرهاب في العالم، ولأن هؤلاء الأطفال والنساء والرجال والشباب والشيوخ، عبارة عن رجل واحد، يحمل حزاماً ناسفاً حول خصره، ولذا، لا يهم إذا سقطوا جميعاً، فداءً للحرب على "الإرهاب"، حتى ولو لم يكن من بين آلاف الضحايا، رجل واحد يحمل الحزام الذي يبحثون عنه.
الفاعل مسلم؟ فالآخرون أبرياء
المسلمون أيضاً، بأغلبيتهم العربية، مجرمون أيضاً، جميعهم يأتون تحت مسميات مثل "خلايا"، ولهم ألقاب معروفة مثل "أبو علي" أو "أبو جهاد"، التي ينطقها الجنود في الفيلم بعربية متكسّرة، ومخارج خاطئة، على الرغم من أن العرب لا بد إذا تحدثوا الإنجليزية في أي فيلم، ستكون إنجليزية بطلاقة، المهم، هؤلاء لا بد أنهم سيفجرون شيئاً ما، ولا بد أنهم سيتركبون فعلاً "إرهابياً"، حتى ولو كان من وجهة نظرهم فعلا متعلقاً بالـ"مقاومة"، فالأفغاني الذي يقاوم الجيش الأمريكي، معتدٍ وليس مقاوماً، والفلسطيني المدافع عن حقوقه وأرضه، مجرمٌ يقتل الأبرياء، والفكرة أن الأبرياء هنا دوماً ليسوا أصحاب الأرض، وإنما الذين ترى "أمريكا" وحدها براءتهم.
هذا هو النمط الأكثر تكراراً، وستجد الكثير منه أينما وليت وجهك في سينما هوليوود التي تحط رحالها في بلاد عربية أو إسلامية.
Last Days in Afghanistan
ربما يكون اسماً لفيلم قريب، فكّر فيه أحد المخرجين المرموقين هناك، وهو أمام شاشة التلفاز يتابع قنوات الأخبار الأمريكية، ويرى المشاهد "المأساوية" لانسحاب جيش بلاده، من بلادٍ "متستاهلش" كل هذه التضحيات، و"خسارة فيها" أشاوس الجيش الأمريكي، ولأنهم لا يعرفون عن الديمقراطية شيئاً، وكل ما يهمهم هو الحشيش الأفغاني، والأفيون.
ولابد من امرأة تهرب من هذا الجحيم، ولابد من رجلٍ نجا منهم بأعجوبة في رحلة طويلة عبر الحدود، ولابد من جنود أمريكان إنسانيين للغاية، ينقذون هذا الوضع حتى برغم مغادرتهم كابول، وليرفرف العلم الأمريكي في النهاية، في خلفية المشهد، بينما يتبادل الأبطال العناقات والقُبلات مع زوجاتهم، وتلتقي امرأة أفغانية جلبوها معهم، ابنَها الذي كان -لولا أمريكا- عنصراً إرهابياً بأفغانستان، كما أنقذوا كثيرين قبله في العراق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.