في اليوم الأخير من زيارتي للبنان بعد غياب دامَ عامين، وقفت على قبر والدي أودعه، وبينما كانت الدموع تغرق عيوني وعيون أخواتي، كنا نشعر بالرضا والحمد لأنه توفي قبل شهور من أن يشهد الجحيم الذي يعيشه لبنان، وبأن كل راتبه بات يعادل ثمن علبة دواء واحدة، هذا إن توافر الدواء.
نعم إلى هنا وصل الحال بلبنان.
تؤلمني كتابة هذه الشهادة، ولكن الألم الذي يعيشه سكان لبنان أعظم وأحلك، وتخجل كلماتي وتعجز عن توصيف حجم الكارثة.
البداية من وصولي إلى مطار العاصمة بيروت، الذي بدا مهملاً ومُتسخاً، وفي الطريق إلى المدينة التي نشأت بها كانت السيارات تصطف فيما يُسمى بـ"طوابير الذل" بانتظار تعبئة خزاناتها بالوقود، الذي بطبيعة الحال ارتفع سعره نتيجة انهيار الليرة اللبنانية.
ينتظرون لساعات في الشمس، ويركنون سياراتهم في الليلة السابقة لحجز دورهم، أما من لا يستطيع، فالسوق السوداء حل بديل، حيث تباع الكمية نفسها بنحو 7 أضعاف!
اقتربت بعد قليل، من مقدمة الطابور إياه، وبدل أن أرى السيارة الأولى بانتظار مدّها بشريان الحياة من الوقود، تجمعت سيارات بعكس السير؛ في محاولة للاحتيال على الصف، وخرج من إحداها رجل يحمل مسدساً على خاصرته، في تهديد واضح وصريح ضد أي اعتراض.
هل تلوم الناس التي قررت أن تستأسد وتكشّر عن أنيابها عندما غاب القانون عن حماية اللبنانيين من احتكار المشتقات النفطية والتلاعب بأسعارها؟
كانت تلك الواقعة الاحتكاكَ الأول مع قانون الغاب الذي سأشهده طوال شهر.
قصتي مع المناقيش
ولأن الوالد -رحمه الله- كان يستقبل أولادي بتقديم الوجبة الأولى من المناقيش التقليدية التي لا مثيل لها، لم أود أن أغيّر ما اعتادوه، فتوجه الأولاد إلى الفرن مقابل المنزل لشراء ما يشتهونه. أعطتهم والدتي المبلغ اللازم بالليرة اللبنانية؛ لمعرفتها جيداً بأسعار السوق الجديدة والأرقام الكبيرة التي كانت تعكس فداحة الأزمة المالية.
وعندما عادوا تبيَّن أن صاحب الفرن قرر أن يضاعف قيمة المنقوشة الواحدة، لأنه علم أنهم "مغتربون"، فاستباح لنفسه حصة من "دولارهم"، في احتكاك أول نبّأني بأن الأمر سيزداد سوءاً.
ولم ينته الأمر هنا، إذ تبين أن الجبنة التي استخدمها غير مثلجة بطريقة صحية، فتعرَّض الأولاد لوعكة صحية دامت يومين.
كنت محظوظة لأنهم لم يحتاجوا إلى رعاية طبية، واقتصر الأمر على بعض الأدوية المنزلية التي أحضرتها معي تحسباً بعد تنبيه الأهل بأزمة الدواء، إذ تبين أن المستشفيات في مدينة تعج بالمصابين بالتسمم نتيجة انقطاع الكهرباء عن البرادات والثلاجات.
بل كانت أزمة المستشفيات أجلَّ وأعظم، في غياب الطاقة التي تهدد المرضى في غرف العناية، والعديد من الأدوية اللازمة لإجراء العمليات الجراحية وغيرها الكثير.
هل تلوم إذن صاحب الفرن لأنه يعاني هو أيضاً من أزمة الكهرباء؟ وهل تلومه إذا ما أراد أن يزيد من ربحه -ولو قليلاً- بعد عجز فئة كبيرة من اللبنانيين عن شراء مناقيشه ولجأوا إلى صناعتها منزلياً؟
لا كهرباء ولا هواء في الليل
ولأن مدن لبنان الكبرى ساحلية، فلك أن تتخيل نسبة الرطوبة العالية التي يعيشها الناس في الصيف.
في لبنان نظام يسمى "اشتراك الموتور"، وهو عبارة عن محركات ضخمة تزود البيوت والمؤسسات بالكهرباء عند انقطاعها من معامل الدولة. ولأن أزمة انقطاع أو "اختفاء" المازوت لا تفرّق بين أحد، اعتمد أصحاب المواتير على سياسة التقنين في مد البيوت بالكهرباء البديلة، بعدما ضاعفوا أسعارهم بحجة شراء الوقود من السوق السوداء.
وحين حلت عتمة الليل، انقطعت الكهرباء وسارعنا إلى إضاءة الشموع، بينما أضاء الأولاد فلاشات الهواتف ليتحركوا بأمان.
ولكن كيف تنام في الحر والرطوبة وكيف تتعامل مع أطفال ومُسنين أنهكهم الحر وكل ما يريدونه مروحة كهربائية لتلطيف الأجواء؟!
هل تلومهم عندما يستيقظون بمزاج سيئ صبيحة اليوم التالي، فما بالك بمزاج كل من ستتعامل معه بعد ليلة مظلمة وحارة لم يغمض فيها جفن إلا تعباً وإرهاقاً؟
أموالك ليست لك.. بقرار من مصرف لبنان
كانت الصدمة التالية في المصرف الذي أودع فيه والداي مدخراتهما للشيخوخة، ذلك الضمان الذي ظنا أنه سيحميهما من الحاجة والعوَز، لكنه أصبح فجأة صعب المنال ولا يحق لهما إلا سحب مبلغ بسيط جداً، وفق معادلة غريبة جداً!
المعادلة المحيرة: يحق للمودع سحب 200 دولار في الأسبوع، ولكن بالعملة اللبنانية حصراً، على أن يُحسب الدولار الواحد بقيمة 3900 ليرة. أما الدولار المعتمد في السوق والمتاجر حيث ستنفق ما سحبته للتو، فقيمته 20 ألف ليرة!
سرقة؟ نصب؟ فجور؟ سمِّها ما شئت، إنما هناك تعميم من مصرف لبنان المركزي باعتماد هذه الصيغة، شاء من شاء وأبى من أبى.
لكنه لاحقاً، أقر تعميماً جديداً يسمح لصاحب المال بسحب مبلغ أكبر، نصفه دولار فعلي والنصف الآخر بالعملة اللبنانية ذات المعادلة الغريبة إياها لقاء الدولار.
توجهت مع والدتي إلى المصرف للمضي بالإجراءات، وبينما كنا ننتظر عند خدمة العملاء، كانت الأصوات تتعالى عند هذا الشباك أو ذاك، وترتفع حدة النقاش وتتغير المصطلحات من مهذبة إلى غير مهذبة.
الموظف يقوم بعمله ويطبق سياسات المصرف الذي يعمل فيه، والعميل يريد ماله الشخصي، فمن الملام؟
هل نحاسب موظفاً لأنه يقوم بعمله لقاء راتب فقد قيمته في أقل من عام، أم توجه غضبك بكل بساطة ضد النظام الذي سمح بتهريب مليارات الدولارات لحساب الفاسدين؟
لم يعد غريباً أن يسود قانون الغاب عندما تغيب الدولة وينام القانون.
المياه مقطوعة في بلد الأنهار!
أما الماء فقصة أخرى، فهو عملة نادرة يهل هلاله مع الكهرباء، فإذا انقطعت الكهرباء لم تضخ المحركات الماء إلى الخزانات؛ ما يعني عدم توافر الماء لغسل اليدين، أو للاستحمام بعد الحر أو للصرف الصحي!
والحل؟ ماء السوق السوداء؛ إذ انتشرت طريقة شراء خزانات الماء من أصحاب عربات نقل يلجؤون لتعبئتها من الآبار الجوفية التي يعوم لبنان فوق ثروة منها.
تتجه تلك العربات لضخ الماء إلى خزانات البيوت كل يوم أو يومين لقاء مبلغ تضاعف 4 مرات خلال شهر واحد فقط.
لم يعد أي شيء غريباً بعد ذلك، وفي غياب الرقيب، يصبح كل شيء مباحاً.
رحلة البحث عن الدواء
كان هذا الأسبوع ربما من أكثر الأسابيع ألماً خلال رحلتي، وبعدما اكتشفنا أن مرض السرطان عاد ليصيب عمي بعد شفائه منه قبل 7 سنوات، طلب الطبيب المختص شراء الإبر اللازمة، وطلب منا تأمين كمية إضافية منها لو نجحنا من إحضارها من خارج لبنان؛ لانقطاعها وحاجة العديد إليها!
وهنا تجلت الكارثة بأبشع صورها، فالمرض ممنوع في لبنان، لأن الدواء الذي كان مصرف لبنان يخصص أموال المودعين اللبنانيين لدعمه وتأمين استيراده اختفى من أرفف الصيدليات.
تراها فارغة المحتوى من الأدوية بينما تعج بمستحضرات التجميل المستوردة التي بات اللبنانيون غير قادرين على شرائها.
وما هي إلا أيام، حتى تم ترخيص بيع الدواء بسعر أغلى بعض الشيء، لكن الرقم لم يكن كافياً لإرضاء جشع المستوردين، فبقيت الأدوية مخبأة بالصناديق في مستودع ما.
والحل؟ لا حل طبعاً، سوى اللجوء إلى كل من تعرفه والطلب من المسافرين القادمين من مصر وتركيا شراء ما يستطيعون إليه سبيلاً، فالعديد من الأدوية لا تباع إلا بوصفة طبية، وهنا يزداد الأمر تعقيداً.
قد يكون الحظ وقف إلى جانبنا لمصادفة وجود شخص مقرب يمضي إجازته في تركيا فأحضر معه الدواء المطلوب، ولكن هل يعتمد اللبنانيون على الحظ في كل مرة ويستمرون في الطلب من هذا وذاك ما يُعد أبسط واجب من واجبات الدولة؟
أما الصدمة التالية فكانت عدم توافر لقاحات الأطفال، فابنة أختي التي تبلغ من العمر 4 أشهر فقط، أصبحت في شهرها الخامس ولم تتلقَّ اللقاح المطلوب، وها نحن من جديد في دوامة اتصالات للبحث عن لقاح هنا أو هناك، وما هي إلا عينة عن عشرات آلاف الأطفال المهددين.
تخجلني هذه السطور، ولكنها شهادة مقتضبة وربما أهون وأسخف ما يكون أمام ما يشهده اللبنانيون كل يوم من "طوابير الذل" على محطات الوقود وأفران الخبز والمصارف وتخليص معاملات جوازات السفر وأخيراً السفارات.
حتى الدولار فقد قيمته عندما اختفت أساسيات الحياة بفعل المحتكرين الذين استغلوا غياب الدولة- وربما بحماية رموزها- لنهب اللبنانيين، فباتوا يموتون في اليوم الواحد ألف مرة.
على قبر والدي تأملت مجدداً ألم فراقه، ولكن من رحمة الله عليه وعلينا أنه لم يشهد لبنان العاجز والمريض، ولم يغادر هذه الدنيا لأن دواءه كان مفقوداً أو تسمماً أو منتظراً في طابور، وما أكثر تلك القصص وما أقساها!
والحل؟ الاحتجاج.. الثورة؟ ولكن كيف يصرخ المريض ويثور الجائع، وكيف تنتقل أصلاً إلى العاصمة بخزان سيارة فارغ من الوقود؟
كل الدولارات عندها لن توصلك حيث تشاء ولن تؤمّن حبة دواء واحدة تنقذ روح عزيز.
في مبنى المغادرين بمطار بيروت، كانت دموع الفراق غير كل مرة، لم يكن الشوق سببها، بل الخوف على من تركنا هناك. هل يهزمهم قانون الغاب، وهل ننقذهم بمساعدتهم على الخروج؟
ساعات قليلة وها أنا أمام التلفاز لمتابعة نشرة الأخبار، بينما تتواصل الرسائل على هاتفي عن كشف مستودع أدوية هنا وخزان غير قانوني للمازوت والبنزين، فأسأل: هل ظهر ما تمت مصادرته في المحطات وفي الصيدليات؟ ويأتي الجواب: وهل يعود ما دخل الثقوب السوداء؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.