أضافت تحليلات ميشيل فوكو خلال الثمانينيات أفقاً جديداً لدراسة أشكال وأنماط الذات البشرية، قبل ذلك تساءل عن كيف ومتى أصبحت الحياة هدفاً للسياسة، وكيف أصبح السلوك الفردي هدفاً للممارسات القسرية عبر ميكانيزمات ومؤسسات السلطة. إن سماع كلمة السلطة يحيل إلى دولة الهيمنة التي تهدف إلى القمع كوسيلة لتأسيس وجودها، بينما يتجلى الوجود الحقيقي للسلطة عندما تكون غير حاضرة. فالدولة بمجمل أجهزتها، كما يشرح فوكو، غير قادرة على ملء مجمل علاقات السلطة.
إن مفهوم المجتمع المدني في السياق العربي وضع كنظيرٍ وندٍّ للسلطة السياسية، وهو مفهوم تم استيراده من التحليلات الغربية في القرن الثامن عشر. كشفت تحليلات فوكو أن الفرد وبالتالي المجتمع ليس بريئاً من ممارسات السلطة السياسية. بل يخضع للتشكيلات السلطوية الانضباطية ومُصدر لها أيضاً، حيث يتجلى كأحد أقنعة السلطة في إطارها الواسع.
للجسد أهمية كبيرة داخل المشروع "الفوكاوي"، فهو يحمل بصمات الممارسات السلطوية واستراتيجيتها التي تنفي كل ما يعاديها من حاجات حيوية للجسد. كيان السلطة مجهري داخل صراعات الحياة اليومية؛ بحيث لا يمكن ملاحظتها إلا من خلال آثارها. لكنها في تعاملها معه ليست أداة للنفي والسلب فقط وإنما تسعى إلى خلق معايير للسلوك ونمطاً للعيش يختزل الذات مسلوبة الإرادة إلى آلة إنتاجية مدمجة ضمن نسق عام يلائم تصور السلطة عن الشكل الذي ينبغي أن يعيش الإنسان على أساسه. فالسلطة ممثلة في أجهزة الدولة والأسرة وشيخ الجامع، السلطة المنتشرة داخل الجسد الاجتماعي لا تريد أن تلغي وجود الفرد كفاعل إنما تريد أن تفرض عليه أشكال الفعل، أن تتصرف وفق ما تريد ليس كما ترى نفسك حقاً.
ينظر فوكو إلى التاريخ باعتباره مجموعة أنساق تفكير تتموضع فيها خطابات الحقيقة لتمارس سلطتها على الذوات. فالحقيقة منتج من العالم، ويمكن ملاحظة أن لكل مجتمع حقيقته الخاصة، يملك نظماً لإنتاجها وشروطاً تحدد مدى قبوله أو رفضه لها. تمارس إرادة الحقيقة نوعاً من الضغط على أشكال الخطابات الأخرى، وتعمل كآلية نفي وإكراه، يؤسس لصيغ خطابية وجودها ويستبعد صيغاً أخرى طالما أنها لا تتوافق أو لن تعزز مكانة الحقيقة المتفق عليها. وبربط المعرفة ورهانات وغايات السلطة، ينكشف أن كليهما يستدعي الآخر. حيث خطاب الحقيقة المنتج من قبل السلطة والمعرفة يفرض أنماطاً معينة من التفكير والسلوك والممارسات. ويتم الحفاظ على الحقيقة من خلال دعم قانوني يعزز عبر الوسائل والكيفيات التي تكتشفها المعرفة.
كفل الوباء غطاءً شرعياً تمارس من خلاله الدول إجراءات القمع تحت غطاء قانوني، يستمد وجوده من تعطيل القانون ذاته، حيث أصبح الفرد مستباحاً أمام الأجهزة الأمنية وآليات السيطرة. توحشت السلطة الصحية ومعها توسعت إجراءات الرقابة والإخضاع؛ فالدول تحركت بغرض تثبيت مصالحها السياسية، وبحثت عن صيغ تخرج بها من التزاماتها بحجة المصلحة العامة. الآن تمثل العودة إلى فوكو ارتداد إلى الذات، للحماية من الوقوع في شرك إكراهات الخطاب وألاعيب السلطة. فبينما يمكن لأحد أن يقول: "الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة لأنه يتضمن الصمت عن أهوال لا تحصى". فعلى العكس الحديث عن الذات الإنسانية ضرورة في ظل الأزمة، التي ترينا بوضوح أننا منفصلين عن أنفسنا مثل الأشجار التي اقتطعوها لأجل بناء منشآت خرسانية قذرة، الأماكن غير المخصصة لأن نتواجد فيها. إن إعادة طرح سؤال الإنسان كذات حية حرة هو السبيل لتجديد العالم، لأننا بتغير ذاتنا نضع بذلك أعمدة تغيير العالم. وفي الأزمة ينبثق سؤال الهوية، من أكون؟
(2)
تكمن أهمية الدروس التي ألقاها فوكو في "الكوليج دي فرانس" عام 1982-1983 في أنها أضافت بعداً جديداً لدراسة السلطة والمعرفة من خلال الممارسات الذاتية. المشروع الذي أعاده لإبراز أهمية مفهوم الانهمام بالذات ومتابعة تطور حمولته الدلالية كمبدأ أخلاقي يشكل كل سلوك نشط وفعال وتوسعه ليصبح ظاهرة ثقافية وحدثاً فكرياً مهماً في الفترة الإغريقية-اليونانية مروراً بالتغيرات التي أحدثتها المسيحية حتى القطيعة الكانطية.
يبرز فوكو أهمية مفهوم الانهمام بالذات بعد اندثاره لفترة طويلة بسبب اهتمام الفلاسفة بالمبدأ السقراطي "اعرف نفسك بنفسك". العبارة التي نقشت على معبد دلفي لم تكن بذات الأهمية حينها، وهي الآن ملائمة بشكل مثير للسخرية أو الأسى لإعلانات مستحضرات التجميل أو أي شيء يختزل الإنسان في سلعة يحدد من خلاله رؤيته لنفسه وللآخرين. عندما يقول سقراط "كن من أنت" هذا يعني أن تقوم بالدور الموكل إليك من قِبل القدر، كما رأى سقراط بأنه موكل من الآلهة ليخرج البشرية من ثباتها. حيث تعلق الأمر في الفترة اليونانية بالتربية والتعلم والسياسة ومواجهة الشيخوخة والألم والمرض، ثم بالحرية التي هي في ذاتها صلب المفهوم، الحرية التي تسمح بممارسة الباريسيا، أي حق التحدث في الحياة السياسية والتي تترجم إلى القول الصادق الحر. تتطلب الباريسيا شجاعة، جرأة أمام تهديد فك الارتباط مع الآخر، فالشخص الذي يريد الاستماع لما يسره لن يقابل أن تواجهه بحقيقة أخطائه وزلاته. وشجاعة الموت إن تعلق الأمر بمواجهة الحاكم أو مجتمعاً مرتاحاً على فراش أفكاره وجد فرصة لممارسة العنف. استعمل كسينوفان، أحد فلاسفة ما قبل سقراط، مفهوم الانهمام بالذات لوصف مسؤولية الحاكم اتجاه الناس والاهتمام بالتراث ومهمة الطبيب تجاه مرضاه.
تعني كلمة الشخصية باللاتينية (القناع أو الممثَل) أن تصبح ذاتك هذا مطلب أخلاقي يتعلق بالعيش في انسجام مع العالم، تحكم نفسك لكي تستطيع حكم الآخرين، وهي في ذلك نصائح لأجل الممارسة السياسية.
لم يعامل الرواقي مثلاً (أنا) الحديثة كأنها خلفية ذاته وإنما قناع شخصي تشكله أيدينا. لنتساءل إذن عن هويتنا، من أنا؟ إن طرح السؤال بهذا الشكل يشير لوجود ذات حقيقية يمكن أن نجدها مطمورة أسفل ركام القوانين والأعراف وألاعيب السلطة، ذات متعالية يمكننا الكشف عنها. والأفضل أن نعود للأصل، لتجاوز الكيتش والبحث عن آفق جديد يعمل على بناء الذات من خلال تقنيات وممارسات، كحال الفلسفة في السابق باعتبارها عملاً على الذات، تمريناً دائماً للاهتمام بالذات، كما يصفها الأبيقوريون. وهذا التحديد يعيد الفلسفة إلى أصلها كفن للعيش.
يرفض فوكو وضع نظرية مسبقة في الذات، بل يأتي مقدماً ذات أخلاقية تحمل مسؤولية نفسها خارج إكراهات الساسة والمجتمع والدين باعتبارهم متحدثين باسم القواعد الثابتة التي يجب على المرء أن يخضع ويلتزم لها. فتصبح بذلك الذات حرة، تُخلق باستمرار، مؤلف حياة يجب ابداعه، مما يجعلها ممارسة جمالية للوجود. غرضها الأساسي أن تتطابق أفعالي مع ما أقوله، تأصيل للحقيقة التي أدافع عنها من خلال عرضها في سلوكي الخاص، مثلما يتجلى ذلك واضحاً في حياة وموت سقراط. في الثقافة المسيحية أصبح الانهمام بالذات نوعاً من تطهير النفس وتجهيزها إلى الخلاص الأخروي، حيث تم قولبة الذات باعتبارها شهوانية يجب كبحها. فالمسيحية طورت شكلاً من تقييد الذات موضوعه الطهارة والعذرية بغرض الاستقامة الدينية. وهو أحد أشكال التذويت التي تتعارض مع هدف الممارسات اليونانية الباحثة عن امتلاك الذات والتمتع بها.
بناء الذات كما أوضحتها قراءة فوكو في نصوص الفلاسفة القدامى، أفلاطون وأبكتاتوس وسينكا وماركوس أوريليوس، تتطلب وجود محرر/معلم للوجود، أي أنها ليست ذات سلبية مغلقة على نفسها أنانية، كما أنها لا ترتاح باعتناق أفكار المجموعة للإندماج وسطها. هي ذات تنشط في ممارسات جماعية، مدرسة أبكتاتوس مثلاً أو سينكا الذي انهم بذاته عن طريق توجيهات صديق كان يراسله. لا يعني الانهمام بالذات قطع العلاقة مع العالم الخارجي، وإنما تغيير شكل التواصل، بمنح الفرد حرية تحديد نمط عيشه وطريقة وجوده في العالم، يبدأ أولاً بتغير علاقته مع ذاته، بناء للذات من قبل الذات يأخذ شكل التغيير التدريجي يحوله انشغال دائم بالحقيقة. تتطلب الصراحة الفلسفية أن نسائل أنفسنا والآخرين، اختبار ما نعرفه "أن أحيا فلسفياً مختبراً نفسي والآخرين"، على حد تعبير فوكو.
حث سقراط الناس على السؤال، لا تطرح الأسئلة من منبر السياسة بل مكانها في الساحات العامة؛ ينصح المواطنين بالانهمام بأنفسهم وخلخلة كل ما يقدم نفسه على أنه يقين مطلق وجعله موضعاً للشك. المجتمع ليس مستقبلاً لإكراهات السلطة فقط إنما هو مادة إنتاج السلطة والقوة التي تجعل من الحقيقة نافذة وتعطيها شرعية بقائها. الفرد فاعل داخل المدينة؛ لذا يمثل سقراط بالنسبة لفوكو حائل يقف أمام سبات المدينة.
إن الذات بوصفها القناع كما استخدم التعبير في اليونان لم يختفي من الوجود رغم أن مدلوله اللغوي تغير حتى أصبح معناه القديم مضاد للمعنى الذي نستخدمه. لكن في الممارسة اليومية، لم يخلع الإنسان قناعه بل انسجم مع القناع الذي قدمه له الواقع، ودافع عن وجود هويته من خلال الدفاع عن وجه بديل سيئ الصنع، خانق وكئيب. أشعر بوجوه رطبة أدمتها الجراح، نزيف لا يتوقف، دم تخنثر وتكثف حتى كون طبقة قناعية أسفل القناع الأساسي.
نحن موثقون بإحكام في ملابس أنتجتها منظومة اجتماعية راسخة، الذات هي منتج لترتيبات وإجراءات كثيرة، ولكي نواجه الحياة العارية يجب أن ننحت ذاتنا عبر ذاتنا نفسها من خلال التعرف عليها عبر الآخر أيضاً لأنها ليست ممارسة أنانية. إن محاولاتنا لفهم أنفسنا وفهم هذا الشيء الغامض الذي سمّته اللغة العالم، تتطلب أولاً الانفكاك من ذواتنا وتحطيم الهويات الموكلة إلينا.
تتطلب السياسة دائماً فكرة ما عن الإنسان، كما يقول بول فاليري. لذا في رفضنا لأنفسنا ممارسة للحرية، الانهمام بالذات يزود المجتمع بالأدوات التي سيستخدمها ضد السياسي لتحسين أو رفض ممارساته.
حلل توماس هوبز الدولة باعتبارها خروج الإنسان من حالة الحرب الحتمية "الضرورية للأهواء الطبيعية التي تسيّر البشر، عند انتفاء قوّة فعلية تنظّم حياتهم، وتجعلهم يحترمون تنفيذ تعهداتهم التعاقدية خوفاً من العقوبة". وفوكو قدم بديلاً ايتيقياً مهماً لا يرجع مصادر أفعال الإنسان إلى الرغبة كالذات الراغبة في التحليل النفسي أو الخوف كما فعل توماس هوبز، وإنما الحياة كفعل جمالي يهدف إلى ضبط السلطة على نفسه لكي يستطيع أن يضبطها على الآخرين. أيضاً الدولة ليست كياناً قانونياً فقط، رغم أنها المتحكمة في الأحكام المعيارية التي تحدد على أساسها الواجبات والحقوق. الدولة كيان رمزي أيضاً يرتبط بالذاكرة والعواطف والتراث، الحكاية التي تروى، الأسطورة. السلطة تحتكر الرمز وتقف أمام أي محاولة لتأثير الناس على القانون. لكن الرمز فضاء واسع للحركة ومكان المقاومة الذي يجعل من الحرية ممكنة في مساحات التحرك السياسي الضيقة.
يضم فوكو إجابته إلى سؤاله قائلاً: "ما هي الفلسفة إذا لم تكن عمل الذات على الذات؟ وإذا لم تكن، مغامرة من أجل معرفة كيف وإلى أي حد يمكننا أن نفكر بطريقة أخرى، بدل أن تشرعن وتقبل بما هو موجود. لا يمكن أن يحصل تحرير للإنسان إلا بالولوج إلى الثقافة، إلى الجميل، وبالتالي إلى الإمكانية، ليس فقط للنظر، وأن نكون محاطين بالأشياء الجميلة، وإنما بإمكانية أن نجعل من حياتنا فعلاً مؤلفاً فنياً". وهذا هو الإنسان الصانع لنفسه ولوجوده كفعل جمالي كمؤلف فني علينا إتمامه. هل تخاف؟ إن الخوف المكون للهواء هنا يضعني في الهامش، حيث أنفلت من إيقاع ضبط الجماهير؛ النشاذ في كورس المجموعة، هو رقصة الروح في خروج ناي سيد سلام عن النوتة أمام أم كلثوم. علينا تعزيز الهامش لأن فيه رمشة العين قد تصبح قصة، الاستعارة من الثقافات القديمة، الاستفادة الحرة من الخيال لأن الدولة والسلطة والدين وأي شيء يمكنه تكبيل الإنسان كان خيالاً يوماً ما. إعادة الحياة في أشكال فنية ماتت أو أوشكت على الانقراض، الوضع الذي يعاني منه مثلاً الفن الجعفرى الصعيدي، الذي تفرع منه ألوان فنية متعددة منها؛ النميم، أبوعاجة، الواو، الكف الصعيدي، السينما المستقلة أو المنعدمة الميزانية التي ستموت بسبب قرار هزلي يفرض ضريبة على التصوير في الشوارع، نعبر بالفن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.