بينما تتحدث وسائل الإعلام الحكومية والخاصة في ظل إعلام الصوت الواحد عن المشروعات القومية المتعددة، ويعلن جهاز الإحصاء الرسمي عن تراجع معدلات البطالة بين الشباب خلال السنوات الأخيرة، ومع الحديث الرسمى والإعلامى عن الجمهورية الجديدة، يجيء استمرار حوادث غرق الشباب المصري أمام السواحل الليبية خلال محاولاتهم الهجرة غير الشرعية، كشاهد عيان على ضعف المصداقية للخطاب الإعلامي المتخم بالإنجازات، وعلى محدودية الثقة بالبيانات الرسمية للبطالة.
ويتباهى المسؤولون المصريون بأنه لم تخرج من مصر سفن الهجرة غير الشرعية منذ سبتمبر/أيلول عام 2016، بعد حادث غرق مركب أمام ساحل منطقة رشيد والذي راح ضحيته المئات من الشباب، وإمداد دول أوروبية لمصر بتجهيزات بحرية لمنع الهجرة غير الشرعية، لحماية الدول الأوروبية من تلك الهجرة غير المرغوب فيها هناك.
إلا أن رحلات الشباب المصري للهجرة غير الشرعية انتقلت إلى السواحل الليبية والتونسية، والتي تتكشف أخبارها من خلال حوادث الغرق المتتالية وانتماء الضحايا لعدد من القرى المصرية، وبما يشير إلى أنها رحلات جماعية تتحرك من مناطق معينة، ومع منع تلك الرحلات من الشواطئ المصرية زادت تكلفة تلك الرحلات مع طول مسافتها، والتي أصبحت تكلفتها تتم على مرحلتين الأولى للوصول إلى ليبيا، والثانية عند الوصول إلى السواحل الإيطالية أو غيرها.
4% نسبة البطالة بريف الدقهلية!
وآخر تلك الحوادث وفاة 11 شاباً من قرية تلبانة بمركز المنصورة محافظة الدقهلية التي تقع بشمال مصر على ساحل البحر المتوسط، والمثير في الأمر أن محافظة الدقهلية تتميز بالثراء النسبي بالمقارنة بغيرها من المحافظات، كما تتوافر بها فرص العمل بشكل يفوق محافظات عديدة، حيث تبلغ قوة العمل بها 1.923 مليون شخص، المشتغلون منهم 1.830 مليون والمتعطلون 93 ألف شخص.
كما تضمن التوزيع النسبي للمشتغلين بالدقهلية عمل نسبة 19% منهم بالجهات الحكومية من ديوان عام المحافظة ومديريات الخدمات والحكم المحلي، و1.6% بشركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، أي أنه مقابل نسبة 20.5% يعملون بالحكومة هناك أكثر من 79% يعلمون بالقطاع الخاص، منهم 34% بالقطاع الخاص داخل المنشآت، و45% بالقطاع الخاص خارج المنشآت مثل عمال الزراعة والصيد والباعة الجائلين والحرفيين العاملين خارج الورش وعمال النظافة وغيرها.
وحسب البيانات الرسمية، فقد بلغت نسبة البطالة بمحافظة الدقهلية خلال عام 2020 نحو 4.8% مقابل نسبة 7.9% للبطالة على المستوى القومي، وتشير بيانات جهاز الإحصاء الرسمي إلى أن نسبة البطالة بحضر الدقهلية بلغت 6.7% وفي ريف الدقهلية 4% فقط، أي أن البطالة في ريف الدقهلية أقل منها في مدن المحافظة.
فلماذا يتجه عشرات الشباب من قرية تلبانة إلى الهجرة غير الشرعية؟ وهي القرية البالغ عدد سكانها 109 آلاف شخص، والتي تبعد عن مدينة المنصورة عاصمة المحافظة عشر كيلومترات فقط، وتتميز بزمامها الزراعي الكبير، وبانخفاض نسبة الأمية بها في ظل كثرة عدد المدارس بها بما فيها مدرسة للتعليم الثانوي ومجمع للمعاهد الأزهرية.
وهكذا فإن الدقهلية طاردة للعمالة، بحث الهجرة الصادر عن جهاز الإحصاء 2018، ولقد سبق قبل حادث تلبانة بأسبوع مصرع ثلاثة من أبناء قرية البقلية التابعة لمركز المنصورة أيضاً خلال سفرهم إلى ليبيا، وتقول أدبيات علم الجريمة إن الحجم الحقيقي للجرائم الخفية التي يصعب ضبطها، يمثل عشر أضعاف عدد الجرائم المضبوطة؛ وهو ما يعني أن هناك رحلات أكثر للهجرة غير الشرعية خرجت من الدقهلية.
ارتفاع الفقر بمحافظات الجنوب
ويظل السؤال إذا كانت المحافظة التي تصل معدلات البطالة الرسمية في قراها 4% يخرج شبابها في رحلات هجرة غير شرعية عديدة، فما هو الحال في المحافظات الأخرى التي أشارت البيانات الرسمية إلى ارتفاع نسبة البطالة بها بالعام الماضى؟ والتي بلغت 20.8% بمحافظة دمياط و18% بمحافظة البحر الأحمر، و16.5% بمحافظة بورسعيد و15% بكل من الأقصر والإسكندرية.
ويعزز هذا التساؤل أن بيانات الفقر الرسمية عن معدلات الفقر قد ذكرت أن معدل الفقر بمحافظة الدقهلية عام 2017 قد بلغ 18.9%، أي أقل من المتوسط العام الذي بلغ 32.5%، بينما هناك محافظات زادت بها نسب الفقر لتصل إلى 60% من سكان محافظة أسيوط بالجنوب، و57% بمحافظة سوهاج بالجنوب و53% بمحافظة مرسى مطروح على الحدود الغربية لمصر، و50% بمحافظة المنيا بالجنوب و47% بمحافظة البحيرة و45% بمحافظة قنا بالجنوب و44% بمحافظة أسوان بالجنوب.
فإذا كانت الدقهلية الغنية بمواردها نسبياً طاردة للسكان فما هو الحال بمحافظات الجنوب الأقل بالموارد والأكثر فقراً؟ فمن الطبيعي أن تكون أكثر في معدل الطرد للسكان والتوجه إلى الهجرة الداخلية والخارجية، في رد عملي يشير إلى تدني نصيب محافظات الجنوب من المشروعات التي يتحدث النظام الحاكم يومياً.
ونظراً لأن غالب ضحايا قرية تلبانة من الشباب، بل من الصبية الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و19 سنة، أي أن غالبيتهم يمكن معاملتهم كأطفال؛ حيث يعتبر القانون المصري الطفل هو كل من تقل سنه عن 18 عاماً، فإن الأمر يتطلب التعرف على أحوال الشباب بمصر ونسب البطالة بينهم، حيث تشير بيانات جهاز الإحصاء الرسمي إلى بلوغ عدد الشباب المصري من سن 18 إلى 29 عاماً نحو 21 مليون شاب خلال العام الحالي.
وأن نسبة 46% من هؤلاء الشباب يحملون مؤهلات تعليمية متوسطة وفوق المتوسطة، ونسبة 23% من الشباب يحملون مؤهلات جامعية و18% يحملون مؤهلات أقل من المتوسطة، و6% يقرأون ويكتبون ويحملون شهادة محو الأمية و7.5% فقط من الشباب أميون.
وتشير البيانات الرسمية الخاصة بعمل الشباب إلى أن نسبة 56% منهم يعملون عملاً دائماً، والباقي ما بين العمل المؤقت والمتقطع والموسمي، كما أن نسبة 23% من عمالة الشباب مشتركون بالتأمينات الاجتماعية؛ أي أن الغالبية ليسوا مشتركين، كما أن أقل من 18% مشتركون في التأمين الصحي.
انخفاض بطالة الشباب بعام كورونا!
كما أشارت البيانات الرسمية إلى بلوغ معدل البطالة بين الشباب 15.4%، والمعروف أن البيانات الرسمية للبطالة تعتبر المشتغل لمدة ساعة بالأسبوع مشتغلاً وليس عاطلاً، مما يقلل من أعداد البطالة الحقيقية بالبيانات الرسمية، حيث لا يكفي أجر ساعة بالأسبوع للإنفاق على الشخص ولو لمدة يوم واحد مع غلاء الأسعار.
لكن تلك البيانات الرسمية تشير إلى أن نسبة البطالة بين الشباب الحاصل على مؤهل جامعي فأعلى تصل إلى 33%، بينما تقل النسبة عن ذلك للبطالة بين الحاصلين على مؤهل متوسط وتقل عن ذلك للأميين.
لكن الأمر غير المفهوم بتلك البيانات الرسمية عندما أشارت إلى تراجع المتوسط العام لمعدل بطالة الشباب خلال السنوات الأخيرة، حين ذكرت أن نسبة بطالة الشباب تراجعت من 26% عام 2015، لتستمر بالتراجع تدريجياً خلال السنوات التالية بانتظام حتى وصلت إلى 16.7% عام 2019.
يتوقع استمرار رحلات الهجرة غير الشرعية للشباب، وغرق الكثير منهم على السواحل الليبية أو التونسية أو الإيطالية وكذلك استمرار حالات الانتحار في ظل الإحباط وفقدان الأمل بالمستقبل، وفي نفس الوقت استمرار النظام الحاكم في إصدار بيانات تراجع معدلات البطالة، وتصريحات توفير المشروعات القومية الملايين من فرص العمل للشباب، والإشادة بالجمهورية الجديدة!
ثم واصلت انخفاضها إلى 15.4% عام 2020، وهو أمر غير طبيعي في ظل تداعيات فيروس كورونا على سوق العمل، واستغناء كثير من المشروعات الخاصة عن جانب من العمالة لديها بسبب الركود بالأسواق وضعف الطلب.
وحتى بافتراض صحة معدل بطالة الشباب البالغ 15.4% عام 2020، فما حال شباب المحافظات التي ارتفع بها معدل بطالة الشباب حسب البيانات الرسمية، والذي بلغ 47.6% بمحافظة شمال سيناء مع إجراءات الحصار وقيود الحركة والحظر الليلي للتجول ببعض المناطق، و38% بمحافظة جنوب سيناء و35% بمحافظة بورسعيد و31.6% بمحافظة دمياط، و26.7% بمحافظة الإسكندرية الأقرب جغرافياً لمدينة السلوم على الحدود مع ليبيا.
مع رفع الحد الأدنى للأجور بشركات القطاع الخاص إلى 2400 جنيه شهرياً مؤخراً، واستثناء كثير من المشروعات من الالتزام بذلك، مع وصول سعر كوب الشاي بالمقاهي الشعبية لخمسة جنيهات وتزيد عن ذلك بالأماكن غير الشعبية، وساندوتش الفول والطعمية صغير الحجم خمسة جنيهات، بما يعني عدم الاكتفاء بساندوتش واحد بالوجبة.
وعبوة المياه الغازية خمسة جنيهات وأقل تذكرة أتوبيس خمسة جنيهات، مع الاضطرار لركوب أكثر من وسيلة مواصلات للوصول لمكان العمل أو العودة منه، كما بلغ سعر الساندوتش متوسط الحجم بالمطاعم خمسة جنيهات.
صندوق ضحايا الهجرة لم يظهر
ورغم أن قانون مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين الذي صدر في عام 2016، قد نص على تشكيل لجنة تنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية وهو ما تم بالفعل عام 2017، لتقديم أوجه الرعاية والخدمات للمهاجرين المُهربين، إلا أن الواقع يشير إلى اكتفاء تلك اللجنة التي تضم ممثلين عن 31 جهة، بعقد ندوات للتوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية ببعض المحافظات بين الحين والآخر.
كما أناط القانون بوزارة الخارجية التنسيق مع السلطات المعنية بالدول الأخرى لتسهيل الإعادة الآمنة للمهاجرين المهربين الأجانب إلى بلادهم، إلا أنه لم يحدث في غالب حالات غرق السفن أمام السواحل الليبية أو التونسية إعادة المصريين إلى قرارهم من خلال الوزارة.
كما نص القانون الذي صدر أواخر عام 2016 على إنشاء صندوق لمكافحة الهجرة غير الشرعية وحماية المهاجرين والشهود، وتقديم المساعدات المالية للمجني عليهم ممن لحقت بهم أخطار، إلا أن الصندوق لم ينشأ بعد رغم مرور خمس سنوات على صدور القانون.
وذكر أهالي تلبانة أن هناك رحلات جماعية للتسفير، لشباب القرية من خلال سمسار معروف للجميع على مدى السنوات الماضية، وهو أمر يثير الدهشة في ظل وجود نقطة شرطة بالقرية لم تتحرك تجاه القضية، مما كان يمكن أن يقلل من عدد الضحايا أو لتنبيه المسؤولين بالمحافظة وغيرها لخطورة الظاهرة التي تستنزف أموال الأسر، كي يمكن التفكير في إيجاد بدائل لعمل مشروعات صغيرة لهؤلاء الشباب بتلك المبالغ الكبيرة التي يدفعونها للسماسرة.
ولقد ركز النظام الحاكم خلال السنوات الماضية على عقد مؤتمرات لنوعية متميزة مُختارة بعناية من الشباب، للتدليل على تأييد شباب مصر للحاكم، بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2016 بمدينة شرم الشيخ ثم في يناير/كانون الثاني من العام التالي بأسوان، وفي أبريل/نيسان من نفس العام بالإسماعيلية، وفي يوليو/تموز من نفس العام بالإسكندرية، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام في شرم الشيخ أي أنه تم عقد أربعة مؤتمرات خلال عام واحد.
وفي عام 2018 عُقد مؤتمران للشباب المصري في مايو/أيار ويوليو/تموز، بالإضافة إلى منتدى شباب العالم في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، وفي عام 2019 عُقد مؤتمران في يوليو/تموز بالعاصمة الإدارية وفي سبتمبر/أيلول بالقاهرة بالإضافة إلى منتدى شباب العالم في ديسمبر/كانون الأول من نفس العام.
ثم اكتفى النظام بلقاء رأس النظام بشباب الدارسين بالأكاديمية الوطنية لتدريب وتأهيل الشباب، لتكون الحاضنة الشبابية للنظام الحاكم، والتي نشأت عام 2017 وبلغ ربط موازنتها بالعام المالي الحالي 2021 /2022 نحو 551 مليون جنيه، وهو مبلغ كان كفيلاً بتوفير أكثر من 11 ألف فرصة عمل تتكلف كل منها خمسون ألف جنيه.
وهكذا يتوقع استمرار رحلات الهجرة غير الشرعية للشباب، وغرق الكثير منهم على السواحل الليبية أو التونسية أو الإيطالية وكذلك استمرار حالات الانتحار في ظل الإحباط وفقدان الأمل بالمستقبل، وفي نفس الوقت استمرار النظام الحاكم في إصدار بيانات تراجع معدلات البطالة، وتصريحات توفير المشروعات القومية الملايين من فرص العمل للشباب، والإشادة بالجمهورية الجديدة!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.