العمران منظومة شاملة عناصرها الإنسان والمكان والزمان والعمارة والاقتصاد والاجتماع، والتي تتفاعل فيما بينها فى إطار منهجية أساسها التوجهات الفكرية والسياسات العامة للدولة وما يتبع ذلك من خطط للعمل والتطبيق والتنفيذ والإدارة والمتابعة. والخلل قد يصيب أيّاً من مكونات هذه المنظومة أو نتيجة تفاعلها بشكل سلبي، وهو ما يدفع لدراسة هذه العوامل مجتمعة لمحاولة تشخيص أسباب ضياع الطبائع العمرانية والشخصية البصرية للقاهرة وسيادة حالة من الفوضى والقبح الذي غطى وجه العاصمة المثقلة الحزينة.
قال ابن خلدون واصفاً القاهرة قديماً: "إن من لم يشاهد القاهرة لم يعرف عظمة الإسلام، فهي حاضرة العالم وجنة الدنيا ومهد التمدن وباب الإسلام وعرش السلطنة. هي مدينة تضفي عليها قلاعها الحصينة وقصورها الشامخة جمالاً فريداً، وتزينها خانقاوات المتصوفة وتكايا الدراويش والمدارس التي تتألق فيها أقمار العلوم ونجومها".
وفي الوقت الذي تكونت شخصية مصر عبر العصور، تبلورت معها شخصية مصر الفنية والمعمارية والتي أيضاً تراكمت فيها المراحل المختلفة في بيئة تراكبية متناقضة وتفاعلت كل أبعاد ومكونات البيئة المصرية الغنية مع الإنسان الذي عاش على أرضها لتنتج فناً وعمارة رفيعة، حيث إن العمارة والعمران هما مرآة تنعكس عليها حضارات الشعوب بخصائصها الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
اجتمعت مجموعة من العوامل طوال نصف القرن الماضي للعمل على صعود طبقات وشرائح اجتماعية كانت في النصف الأول من نفس القرن تنتسب إلى الدرجات الدنيا؛ ومن هذه العوامل: التوسع في التعليم، الهجرة. وفي نفس الوقت اجتمعت مجموعة من العوامل التي عملت على انحدار طبقات وشرائح كانت في أعلى السلم الاجتماعي، ومن هذه العوامل: إجراءات الإصلاح الزراعي والتأميم، واتساع دور الحكومة والقطاع العام على حساب القطاع الخاص.
هذا الانقلاب في البناء الطبقي للمجتمع ترك آثاراً قوية على السلوك الاقتصادي والاجتماعي وعلى المناخ الثقافي والسياسي.
يقول عالم الاجتماع سوركين p. Sorokin: "بينما تميل الطبقات الدنيا في الظروف الاجتماعية الثابتة نسبياً إلى تقليد الطبقات الأعلى منها في أنماط سلوكها، فإنه في الظروف التي تتعرض فيها الطبقات العليا للانحدار والتدهور على درجات السلم الاجتماعي يحدث العكس، حيث تأخذ الطبقات الهابطة في تقليد واقتباس الطبقات الأدنى منها واقتباس قيمها"، وهو ما قد يفسر انتشار بعض القيم في الطبقات العليا والدنيا كتناول المأكولات الشعبية وانتشار الأسماء الريفية وغيرها، فالطبقة الصاعدة تفرض نفوذها وسلوكياتها نظراً لقوتها الشرائية والطبقة الهابطة تحاول أن تتكيف وتساير الواقع.
ونستنتج مما سبق أن الحراك الاجتماعي السريع يؤدي إلى التخلي عن القيم وفضائل الأخلاق في مقابل السرعة وانتهاز الفرص، والفضائل تظهر في المجتمع الأكثر ثباتاً كاحترام الكلمة والوفاء بالوعد والكرامة وغيرها، وكلما كان التغير سريعاً أصبح الثبات والإخلاص للقديم نوعاً من العاطفة الزائدة التي لا حاجة لها.
وفي ضوء هذا التحليل يمكن أن ندرك ظاهرة هدم المباني ذات القيمة الفنية والتاريخية، حيث فقدت مصر الكثير من الكنوز المعمارية التي تم اغتيالها وبناء أبراج ومبانٍ قبيحة ومشوهة، وذلك للانتفاع المادي وعدم وجود أي تعاطف مع القديم، وعدم تقدير التراث ولا احترام جمالياته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.