إن المدافع الحقيقي عن المرأة والمقتنع بما لها من أثر على المجتمع والإنسان بصفة عامة (1) لا يفصل وضعية النساء في البلدان المختلفة؛ إذ إضافة إلى النقاط المشتركة في الانتماء للجنس البشري (وحدة الأصل والمصير، تشابه تواريخ الشعوب في نقاط عدة (نتعايش ضمن نفس النظام العالمي مع بعض الاختلافات المحلية. وهو ما يخلق وضعية تشابه أو تماثل بين ظروف النساء) كظاهرة اختلاف أجور النساء (2) بالنسبة إلى أجور نظرائهن من الرجال كنوع من التمييز الاقتصادي القائم على الجنس، في وضع تقر فيه مؤسسات النظام العالمي بأن أكبر تحدٍّ لحقوق الإنسان في عالمنا هو تحقيق المساواة بين الجنسين. (3)
الواقع التونسي
إن عبء الواجبات المنزلية التقليدية الملقاة على كتف المرأة التونسية لم يتغير بين الأمس واليوم. يضاف إلى ذلك نسق العيش السريع وما يرافقه من ضغط شديد كسمة أساسية للحياة العصرية. ومع ذلك فنادراً ما يساهم الرجل في أشغال البيت أو الاعتناء بالأطفال؛ إذ ما زالت فكرة الارتباط بين نقص الرجولة والاضطلاع بهذه الأعمال متأصلة في العقلية حتى أضحت بنداً في دليل التعامل بين الأزواج. يضاف إلى ذلك جهد العمل خارج المنزل ليصبح الوضع أعقد وأصعب بالنسبة للنساء. ثم إن طبيعة النظام الرأسمالي تفرض جملة من الواجبات التي تزيد الوضع تعقيداً. هذا النظام لا ينفك يؤكد على رجعيته وذكوريته بتركيزه على صورة المرأة النموذج التي تظهر في إعلانات تسويق البضائع الجديدة. تواتر عرض هذه الإعلانات وتشييء المرأة يفرض معايير جمال محددة ومحدودة؛ وما يلبث هذا المثال أن ينال من معنويات أغلب النساء. هنا يظهر معطى آخر مهم وهو عجز الشعب التونسي عن حل معضلة هويته (ربما نكون نعايش فترة انتقالية طويلة جعلتنا أسرى لحظة واقعة بين مرحلتين من التاريخ). فتطالب النسوة والفتيات بالاستجابة إلى هذه الصورة النمطية مع المحافظة على مستوى معين من الحشمة تتناسب وازدواجية الرجل التونسي بل انفصامه. الاستجابة إلى شروط الجمال الخارجي تقتضي وجود سوق عالمية لمواد التجميل التي نجح النظام في خلق الحاجة إلى عشرات الأنواع منها من ماركات مختلفة. وللقارئ أن يتخيل حجم الأرباح التي تدرها سنوياً على أصحاب هذه الشركات العالمية عابرة القارات. لكن هؤلاء النساء يعتبرن محظوظات نسبة إلى نساء الريف؛ نظراً لتركز هيئات الدولة ومؤسساتها بالمدن في حال تعرضن إلى العنف.
تعاني نساء الريف من صعوبات تهدد حياتهن وتعرضهن للموت (تواتر حوادث نقل العاملات). هنا نتحدث عن آلاف النساء العاملات في قطاع الفلاحة وهذا دليل آخر على جواز إسقاط الظواهر العالمية الخاصة بظروف المرأة على المثال التونسي. حيث تسجل الولايات المتحدة أن 60% من النساء يشتغلن في الاقتصاد غير الرسمي (4). رغم أن إدماج المرأة في الدورة الاقتصادية كان من أهم ما دعت إليه حركة الإصلاح فإن هاته الطبقة من النساء تعاني من وضعية اجتماعية هشة وظروف اقتصادية قاسية. كما لم يحض الحضور المكثف للمرأة في ميدان الفلاحة باعتراف يتناسب مع أهميته. حيث يمكن الجزم بإمكانية شلل هذا القطاع الاقتصادي لولا وجود المرأة فيه. إذ إن الرجال قد هاجروا هذا الميدان لمشقة العمل وضعف المدخول (في تمثيل كلاسيكي في علاقة الإنتاج النمطية العمودية بين الأجير والمؤجر، المنتج ومالك وسيلة الإنتاج وفي إحالة لظروف الاضطهاد التي عانى منها عمال المصانع في أوروبا في القرون الوسطى أولى فترات تركيز الرأسمالية الصناعية بعد أزمة الإقطاع وتشريد الفلاحين). رغم ذلك، فإن العمل في هذه الظروف الهشة هو خيار البقاء الوحيد لنساء ريفيات كثيرات. حيث إن أغلب هؤلاء النسوة يبحثن عن سبل إعالة أبنائهن وعائلاتهن. حتى إن بعض الولايات الداخلية تتميز بعمل النسوة في الفلاحة مقابل تقاعس وعطالة اختياريين للرجال، كما تسجل الوقائع ارتفاع أجور الرجال عن أجور نظيراتهم. ولا يمكن اعتبار هذا سوى استباحة واضحة لمجهود العاملات واستغلال وقح لتعبهن في تحد واضح للقانون الذي يجرم التمييز الاقتصادي.
الجهود المبذولة حالياً في تونس، أو بالأحرى الأصوات التي تعتبر نفسها نسوية، (في إطار رسمي غير سياسي)، هي جمعيات تتلقى دعماً من الخارج، ينشط من ينشط منها في مجال الحريات الفردية.. في حين يقتصر دور البقية على بعض الدراسات والمشاريع الميدانية التي لم تستطع حتى كسب تيار كبير من المساندين والمساندات بحيث يمكن الحديث عن حركة نسوية قوية، لم تتمكن من تقليص الهوة بين نساء الطبقات المختلفة أو التوحيد بينهن ولم تنجح ميدانياً في إحداث فرق يذكر.
المرأة واليسار التونسي
بعد تجميد نشاط مجلس النواب في 25 يوليو/تموز تعالت عدة أصوات حقوقية تقدمية تطالب بتعيين امرأة في موقع رئيسة الحكومة الجديدة وبتكوين حكومة على أساس التناصف.. وبغض النظر عما لاقته هذه الدعوات من بعض الاتهامات بالانفصال عن واقع المرأة التونسية وبالنخبوية، فإن هذه المطالب وإن كانت ذات دلالة قوية في بعدها الرمزي فهي لا تخدم القضية النسوية بشكل فعال. إذ لا معنى للدلالة على مساواة مغلوطة ولا صحة لتوقع استحسان كل الشعب لقرارات من هذا النوع. تغيير وضعية المرأة وإن يتم تقنياً عبر قوانين فإن تفعيله واقعياً لا يكون إلا من الأسفل أي القاعدة. إذ يجب العمل أولاً على تحسين وضعية الطبقات النسوية الدنيا ودفع نساء كل الطبقات نحو انخراط أكثر فاعلية في الحياة العلمية والعملية.. تشير عدة دلائل في الواقع التونسي إلى هيمنة العنصر الذكوري على ميادين مهمة وتفوق الرجال من حيث سيطرتهم على المناصب التي تحظى بمكانة اجتماعية اعتبارية: الأساتذة في الكليات، القيادات في الأحزاب، المفكرين والمنتجين للأدب والفن والفكر… هذا المعطى هو واجهة مجتمع تسيطر فيه العقلية الذكورية؛ أما التمكين السياسي فيجب أن يسبقه تمكين اقتصادي وأن يكون نتيجة طبيعية في إطار علاقة سببية وليس استجابة لمطلب شكلي. وهذا يفترض العمل على تأنيث المؤسسة العلمية والوسط السياسي أولاً، عوض تخلي النساء عن طموحاتهن في سبيل الارتباط والتفرغ حصرياً لتربية الأطفال.
إن الشيوعية لم تغيِّب مطلقاً المرأة ولم تبخسها حقها. بل هي أول من يقر بذكورية النظام الأبوي ويدعو إلى تحرير المرأة وتوظيف كل قدراتها نحو بناء المجتمع الخالي من الطبقات. إن منظري الشيوعية يعون تماماً ما للنظام من غاية في الحفاظ على تخلف المجتمعات أو بالأحرى الأغلبية؛ أي الطبقة العاملة بتكبيل المرأة بقيود جديدة بعد إحكام القيود القديمة. لقد بين فريدريك أنجلز في كتابه: أصل العائلة والملكية الفردية والدولة، كيف أن اضطهاد المرأة كان أول مظاهر انقسام المجتمع البدائي إلى طبقات. وإن كان التاريخ تواصل لحلقات صراع الطبقات، فإن ما يميز الشيوعية هو إقرارها بأن تحرير المرأة هو في قلب القضاء على العلاقات البرجوازية، وأن ما من تحرير للبروليتاريا دون تحرير للمرأة، وما من تحرير للمرأة دون تحرير للبروليتاريا. إلى اليوم، لا تتمتع المرأة في أكثر المجتمعات الديمقراطية البورجوازية بحقوقها كاملة أمام الرجل. وهذا ما يتعارض فعلاً مع قواعد الشيوعية، يشهد على ذلك تاريخ من تكوين قيادات نوعية ثورية نسوية، كما تشهد حركات التحرر الحديثة ومنها حركة التحرير الشيوعية الوحيدة في الخليج: ثورة ظفار(5) في سلطنة عمان، والتي انطلقت في 9 من يونيو/حزيران عام 1965 والتي كانت تهدف لاحقاً إلى تحرير كامل منطقة الخليج في إطار التضامن الأممي. لذلك فإن معيار نجاح ثورة ما مرتبط بمكانة المرأة في الحزب الطلائعي. كدليل على ذلك يمكن أيضاً رؤية ما ينسب للمرأة من أدوار مساوية لأدوار الرجل في حزب العمال الكردستاني
وإن دعا الفكر الماركسي إلى تشريك المرأة في كل مراحل المرور نحو المجتمع الاشتراكي وإن تبنى اليساريون الماركسيون في تونس هذا الطرح في بعده الاقتصادي والسياسي والتاريخي، فإن ممارسات الكثيرين منهم في الواقع تبين تناقضاً بين ما يظهرون من أفكار وما يبطنون من قناعات.. في حين أنه من المفترض أن تجد المرأة الحليف والنصير في الوسط اليساري الحداثي التقدمي حتى إن بعض من يحسبون على المثقفين يتهمون النسويات بعقد نفسية لانحيازهن لقضية المرأة. هؤلاء لا يختلفون عن بقية مثقفي الوطن العربي الذين عجزوا عن التخلص من الإرث الأبوي وتصوراته الذكورية كما يقول الصحفي التونسي ياسين النابلي. (6) فرغم غزارة مطالعاتهم وثراء معلوماتهم، لا يزالون حبيسي مجموعة أفكار رجعية ترتبط بالمرأة وبعلاقتهم بها في حالة انفصامية عجيبة. وإدراج هذه الحالة تحت مسمى مرضي ليس تجنياً بل هو توصيف موضوعي دقيق لحالة تمزق وصراع داخلي ربما لم تجد ضحيته الشجاعة اللازمة لوضع حد له.
الرجل اليساري يناقش الأدب والشعر والاقتصاد والسياسة والفلسفة وكل العلوم، ثم يبدأ صوته بالانخفاض تدريجياً إلى حد الصمت حين يطرح موضوع حقوق المرأة إذا استثنينا قلة قليلة. إن المرأة المتماهية مع التقسيم الكلاسيكي الثنائي للأدوار، القانعة بدور المفعول بها، الراضية غير المتذمرة هي نقيض المرأة المزعجة الرافضة للظلم، الناقدة للمجتمع. هذه الأخيرة تمثل مصدر خوف وخطر حقيقي قادر على تهديد سكونية وراحة السيد الشرقي الآمر الناهي الذي ما زال يسكن أغوار شخصية أغلب المثقفين. لذلك قلما ترتفع أصوات ذكورية داعية إلى تحرير المرأة من قيود الأبوية، إما من طرف شخصيات متوازنة واثقة من نفسها أو في إطار التظاهر أو لمجرد رفع الحرج في مناسبات رسمية.
المصادر
- ميثاق الأمم المتحدة: الفصل الأول مقاصد الهيئة ومبادئها: المادة 1 : النقطة 3
2. https://bit.ly/3mEmBnE
3. https://bit.ly/3zqjByW
4. https://bit.ly/3gZ3BwP
5. https://bit.ly/3ytCdg6
6. https://bit.ly/3Bkldee
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.