بتتبع مسيرة قيس سعيّد خلال السنوات القليلة الماضية نكتشف أنه عمل في وظيفتين ساهمتا في وصولنا إلى المشهد الحالي. قبل أن يصل إلى الرئاسة، عمل سعيد أستاذاً جامعياً في تخصص القانون الدستوري، وهي وظيفة تدفع صاحبها للدفاع على الدستور والقانون، واحترام حكم القانون. لكن الانقلاب الدستوري الذي قام به في ليلة 25 من يوليو/تموز أعطي دليلاً واضحاً على أن ما تعلمه سعيد خلال عمله في السنوات الماضية هو كيفية التلاعب بالدستور، وتقديم تفسيرات وتأويلات لا علاقة لها بنص ولا روح النصوص الدستورية. لم يحاول سعيد إيجاد حل للأزمات التي تواجهها تونس من خلال استخدام الأدوات والمسارات المتاحة داخل الدستور والقانون التونسي، وبدلاً من ذلك عمل على تجاهل هذه النصوص أو تأويلها تأويلات شاذة. وإذا كانت بعض الأصوات القانونية حاولت تقديم تبرير قانوني ودستوري لقرارات سعيد في تلك الليلة، فإن تجديد الإجراءات التي فرضها بعد مضي شهر عليها يعني أن الرجل غير مهموم بالحفاظ على الدستور والقانون. سعيد رفض في وقت سابق المصادقة على قانون إنشاء المحكمة الدستورية العليا، على الرغم من أنه كان من المفترض أن يكون أول الساعين لإنشاء هذه المؤسسة. وعمل على هدم السلطة التشريعية رغم أنها سلطة منتخبة مثله تماماً. أما في السلطة التنفيذية، فإنه يعمل على جمع كل صلاحياتها بين يديه. حالياً، لا يبدو سعيد منشغلاً بإيجاد تفسيرات أو تبريرات قانونية لما يقوم به، في تصرفات أقرب إلى مستبد منها إلى أستاذ قانون دستوري. لذلك، فإن تونس لم تستفد كثيراً من عمل سعيد كأستاذ جامعي متخصص في القانون الدستوري.
الوظيفة الثانية التي عمل بها سعيد هي عمله في منصب رئيس الجمهورية. جاء سعيد إلى رئاسة تونس عبر انتخابات ديمقراطية، لم يأت عبر ظهر دبابة ولا من خلال الدعم الخارجي، تعتبر هذه هي الحجة الرئيسية التي يستخدمها مؤيدوه لتبرير القرارات التي اتخذها. لكن وصول سعيد للرئاسة هو مثال جيد لكيف يمكن للديمقراطية أن تتحول إلى شعبوية، فسعيد يمثل نموذجاً مثالياً لسياسي شعبوي. لا أقصد بالشعبوي هنا أنه يجيد التحدث باللغة العربية الفصحى، ولكن أقصد المعنى السياسي لها. وهذا المعنى السياسي يحتوي على أربعة أبعاد رئيسية:
الأول، أنه سياسي قادم من خارج الطبقة السياسية (سواء الموجودة في الحكم أو المعارضة)، ويفتخر بذلك دائماً على اعتبار أنها ميزة لا توجد في غيره. البعد الثاني أنه يتبنى دائماً مواقف ضد السياسة وضد السياسيين، رغم أن ما أوصله لكرسي الحكم هما السياسة والنظام السياسي اللذان بدونهما لاستمر في إعطاء محاضرات في القانون الدستوري تحت نظام غير ديمقراطي لا يحترم دستوراً أو قانوناً.
أما البعد الثالث للسياسي الشعبوي فهو عمله الدائب والمستمر على مغازلة المواطنين بكلام جميل وشعارات زائفة، تحببهم فيه وتكرههم في النخب السياسية والنظام السياسي. شعارات بها الكثير من الكلام عن الاستقلالية وعن الكرامة، وقليل من العمل لتحويل هذه الشعارات إلى عمل وسياسات يمكن تطبيقها. وهو ما ينقلنا إلى البعد الرابع والأخير وهو غياب أي برامج أو تصورات بخلاف البقاء في الحكم، وحشد الجماهير ضد أعداء متوهمين. مع الإقرار بأنه في بعض الحالات قد تقترن الشعبوية مع أيديولوجيات أخرى لديها برامج وسياسات تنحاز إليها، لكن هذا لا ينطبق على سعيد.
هذا النمط من الشعبوية، هو نمط شديد البؤس والفقر. وسبب ذلك أنه لا يملك أي تصورات عن المستقبل بخلاف الأحلام الكبرى والحشد الدائم وإيقاد نار العداوة مع السياسة والسياسيين دائماً. هذا نمط غير قادر على حل مشاكل الناس، وتلبية احتياجاتهم، وغير قادر على الوصول إلى تسويات اجتماعية واسعة أو حتى حبك مؤامرات سياسية تطيح بالأطراف الأخرى من الساحة السياسية.
لكن جزءاً من أسباب الوصول إلى لحظة الانقلاب الدستوري والخواء السياسي تتحمله النخب السياسية التونسية التي لم تستطع خلال السنوات الماضية تحقيق آمال وتطلعات الشعب التونسي اقتصادياً وسياسياً. حالة الفشل المستمر تلك أنتجت حالة سياسية سمحت لظهور وهيمنة الخطابات الشعبوية، وبروز قيس سعيد كسياسي رغم أنه ضد السياسة!
لكن الإقرار بأخطاء النخب السياسية لا يعني القبول بانقلاب قيس سعيد أو تبريره. ما يقوم به سعيد حالياً، نجاح ما يربو إليه سعيّد سيقضي على آخر آمال تونس في الوصول إلى صيغة تسمح بالعيش الكريم في ظل نظام يضمن الحريات الأساسية.
المشكلة الرئيسية أمام جميع الأطراف الداخلية والخارجية أن سعيد يتحرك بدون "كتالوج" أو خطة موضوعة بعناية لتحقيق أهدافه. وهذا يفتح تونس على كل الاحتمالات، بداية من انقلاب عسكري يقوم به ضابط بدعوى القضاء على الفوضى وإنقاذ البلاد من الأزمة السياسية، مروراً ببقاء البلاد لشهور في حالة من انعدام التوازن السياسي والاقتصادي يؤدي إلى مزيد من الأزمات والمشاكل، انتهاء ببروز تيارات سياسية جديدة على أنقاض التيارات السياسية الحالية تعارض قيس سعيد وتقدم نموذجاً جديداً في السياسة التي تهتم بمصالح الناس وقوتهم كما تهتم بإجراء الانتخابات النزيهة والشفافة. يبدو الاحتمال الأخير صعب التحقق حالياً، رغم ما به من إيجابيات. أما الحل الثاني، فإنه يبدو الشكل الأرجح: استمرار في السقوط دون بوادر لانفراجات قريبة. أما السيناريو الأول فهو الأسوأ على الإطلاق. وإن كان من غير المحتمل أن يحدث في الأسابيع القليلة الماضية، لكن من يدخل الجيش التونسي داخل أتون صراع سياسي فلا يلومن إلا نفسه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.