بغض النظر عن الصراعات القائمة بين الرئيس التونسي ورئيس الحكومة والبرلمان من جهة أخرى، فإن الأزمة السياسية الحالية قد وضعت النظام السياسي الذي أرساهُ دستور 2014 برمته موضع المساءلة والنقد والدعوة للتجاوز حتى من الأطراف التي شاركت في صياغته ودعمت وضعه، ويبدو أن تونس ستشهد على المديين المتوسط والبعيد تحولات سياسية جذرية، يُمكِن حصرها في:
إصلاح النظام السياسي
سيكون لخيار المحافظة على النظام السياسي الحالي في تونس مخاطرة كبيرة، يمكن أن تعمق الأزمة التي تعيشها البلاد، وما يثير الاهتمام في مواقف قيس سعيّد بعد دخوله قصر قرطاج، هو أن أستاذ القانون الدستوري لم يتخل عن إصراره على رفض نظام الحكم شبه البرلماني الذي يتمتع فيه مجلس النواب بصلاحيات واسعة، بدءاً باختيار الغالبية البرلمانية لرئيس الحكومة وصولاً إلى منحه الثقة، إذ كثيراً ما عبر الرئيس التونسي عن رفضه لما عرف في البلاد بالرئاسات الثلاث (رئيس الجمهورية، رئيس مجلس نواب الشعب، رئيس الحكومة) مؤكداً أن للدولة "رئيساً واحداً" هو رئيس الجمهورية، وهو موقف يعبر عن تفضيل قيس سعيّد للنظام الرئاسي الذي يقترح أن يرافقه مجلس تشريعي منتخب محلياً على الأفراد، وليس على القوائم الحزبية والمستقلة كما هو عليه الحال الآن، فمنذ تسلّمه الحكم رئيساً للجمهورية التونسية حمل قيس سعيد النظام القائم مسؤولية الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مروّجاً لفشل النظام القائم، مقابل فاعلية النظام الرئاسي الذي يتميز بسرعة اتخاذ القرارات ونجاعة التدخل، على عكس ما كان يحدث مع البرلمان والحكومة المعطلة والخلافات السياسية.
لهذا سيكون السيناريو الأرجح أن الرئيس قيس سيختار تعديل النظام السياسي نحو نظام رئاسي خالص، بإصلاح بنيوية النظام وآلياته الوظيفية بهدف إعادة بناء موازين قوى جديدة عبر إعادة هندسة النظام السياسي، وفق منظور جديد ومغاير وسيكون عبر معركة انتخابية يحسمها الاستفتاء الشعبي، أي العودة للنظام القديم الذي كان سائداً بين 1959 و2011، حيث لرئيس الدولة سلطات واسعة، وهو رئيس الحكومة التي تدار من خلال وزير أول ويراقبها البرلمان، لكن داخل الأطر الديمقراطية كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية.
يمكن أن يقوم الرئيس التونسي بالتأسيس لمسار الانتقال إلى النظام الرئاسي على الطريقة الديغولية في فرنسا، الذي كان مؤمناً بوجوب أن تكون السلطة التنفيذية قوية واسعة الصلاحيات؛ درءاً لخطر عدم الاستقرار، فعرفت فرنسا في 12 سنة (عمر الجمهورية الرابعة)، ما لا يقل عن 12 حكومة، وكان الشعب الفرنسي قد أدرك بعد تجربته المريرة مع الألاعيب الحزبية والباب الدوّار للحكومات، أن أمر البلاد لن يصلح إلا بسلطة تنفيذية قوية، وقد شرح ديغول ذلك بالقول: " تحتاج الدولة رئيساً، قائداً، يمكن للأمة أن ترى فيه الرجل الذي يبرم أمورها ويوجه مصيرها. ولا ينبغي لهذا الرئيس، بما أنه في خدمة الأمة قاطبة، أن يأتي من البرلمان الذي هو تركيبة من المصالح الفئوية". ولا يزال دستور الجمهورية الخامسة هذا الذي أيده الشعب بأغلبية 80%، هو الذي تحكم به فرنسا اليوم وتحتكم إليه. ومعروف أن ميتران ظل يندد بدستور 1958 ويصفه بأنه انقلاب دائم إلا أنه ارتضاه لما صار رئيساً فحكم به 14 سنة كاملة.
كما انتقلت تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي عقب استفتاء تم إجراؤه في عام 2017، ومن الإيجابيات عن النظام الرئاسي الجديد في تركيا، مركزية القرار وسرعة اتخاذه، من دون المرور بحاجز مكتب رئيس الوزراء والبرلمان، ما جعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقول إن بلاده "بفضل النظام الرئاسي الجديد باتت قادرة على التجاوب الفعال والسريع والشامل مع الأزمات الإقليمية والعالمية".
فقيس سعيد يسعى بذلك لفرض نفسه في اللحظة الحاسمة كبديل أوحد لسلطة فاشلة، بإصلاح النظام السياسي التونسي وإقرار لنظام رئاسي بحيث تكون المنظومة تحت إمرة الرئيس فقط لكونه منتخباً مباشرة من قبل ملايين من أبناء الشعب، فالطبيعي أن تكون لديه صلاحيات تنفيذية كبيرة ينظمها الدستور والقانون. فيما يقتصر البرلمان على مراقبة عمل الحكومة بهدف تثبيت الاستقرار السياسي في البلاد.
التراجع إلى الاستبداد
نشر موقع "ميدل إيست آي (Middle East Eye) البريطاني وثيقة وصفت بأنها "سرية للغاية" قال إنها مسربة من مكتب مديرة الديوان الرئاسي التونسي نادية عكاشة- يعود تاريخها إلى 13 مايو/أيار 2021- تعرض تفاصيل خطة لإقامة ديكتاتورية دستورية في تونس، ليست انقلاباً عسكرياً بالمعنى الدقيق، بما أنه لا يفترض عزل أية سلطة، ولكن بغاية تفعيل الفصل 80 من الدستور الذي يمنح لرئيس الدولة كل السلطات عند مواجهة خطر داهم، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة؛ وهو ما يعتبر قفزة إلى المجهول بالنظر إلى أن المحكمة الدستورية التي يمكن اللجوء إليها خلال ثلاثين يوماً للتأكد من مدى صحة الظروف الاستثنائية غير موجودة الآن.
وبحسب الوثيقة، فقد حث كبار المستشارين الرئيس التونسي قيس سعيد على انتزاع السيطرة على البلد من الحكومة المنتخبة ودعوة خصوم الرئيس السياسيين إلى القصر الرئاسي والإعلان عن الخطة بوجودهم، مع عدم السماح لهم بالمغادرة، وفي الوقت ذاته سيتم إلقاء القبض على عدد من كبار السياسيين الآخرين ورجال الأعمال؛ ما سيسمح له ببسط سيطرة كاملة على الدولة.
لهذا أثارت أحداث 25 يوليو/تموز 2021 مخاوف التونسيين من انقلاب دستوري يخشى أن ينزلق بتونس نحو الحكم الفردي أو الديكتاتورية الدستورية والتي تعني تجسيداً للنظام الفردي، وذلك بتحقيق التركيز التام للسلطة السياسية بيد شخص واحد يجمع بين يديه جميع الاختصاصات التنفيذية والتشريعية في حال تعرض الدولة للخطر الخارجي أو الأزمة الداخلية، ويحدد هذا التركيز بفترة زمنية تقر من خلال قانون في الدستور أو وفق قانون برلماني أو حكومي، وتنتهي بنهاية تلك الأخطار، فالديكتاتورية الدستورية هي أحد أشكال الحكومة التي تمارس سلطات ديكتاتورية في أثناء حالة الطوارئ، ومن الواضح أن هذا النظام مؤقت فهو ينتهي بنهاية المدة المحددة له أو بزوال الظروف التي استدعت قيامه .
لهذا يخشى معارضو الرئيس قيس سعيد أن قراراته تجهض الإصلاح والدفع في طريق ديمقراطية حقيقة تتصدى للاستبداد، وإنما تنحدر بتونس إلى الحكم التسلطي، حيث لا يكون هناك مجال للتغيير إلا عن طريق الانقلابات والتآمر على الحكم وإزاحته بالقوة، وتأسيس حكم يقوم على مبدأ الغلبة، ويستمر بفضل غلبته على مقدرات الناس، إلى أن يأتي من يغلبه بالقوة والعنف.
ويحاجج معارضو قيس سعيد أن قراراته في الوضع الحالي استبدادية، أي أعلى درجة من النظام الرئاسي المحض، فالرئيس يجمع كل السلطات في يده، ناهيك عن أنه لم يسمح باستمرار البرلمان، وأنه بالغ في استخدام المادة 80 حتى أصبح هو المادة 80 نفسه، فحلّ الحكومة وعلّق البرلمان ورفع الحصانة وضعف دور الأحزاب والنقابات، وسيطر على المؤسستين العسكرية والأمنية من خلال تركيز جميع السلطات بين يديه، وهي سلطة ديكتاتورية أعلى من النظام الرئاسي الذي يفصل بين السلطات، ويكون القضاء مستقلاً والصحافة حرة فيه، ولم يضع أي خطة طريق لتجديد النظام السياسي وتغيب بذلك ضمانات مسار بناء دولة القانون.
ويستعين الرئيس التونسي في توجهه هذا بالإحباط العام السائد من أداء القوى السياسية، خلال السنوات الأخيرة، ومن تدهور الأوضاع الاجتماعية والمعيشية، فضلاً عن ارتباك المعارضة وتشتتها وضعف أدائها والصراعات الداخلية التي تتفاقم داخل بعضها.
نظام الحكم الحالي في تونس هو نظام الحالة الاستثنائية، كما تم التنظير له من كارل شميت وجورجيو أغامبين، فهو نظام لا قواعد دستورية له، وتحكمه وضعية الضرورة، أي أن كيان الدولة في خطر، ما يتعطل معه السير العادي لكل سلطات الدولة، فبعد مرور ثلاثة أسابيع على إجراءات 25 يوليو/تموز ما زال الرئيس الذي منح نفسه صلاحيات شبه مطلقة لم يفصح بعد، عن أي خريطة طريق للمرحلة المقبلة، على الرغم من المطالبات الداخلية والخارجية المنادية بسرعة الخروج من الوضع الاستثنائي والعودة إلى المسار الدستوري، ينتظر التونسيون أن يفصح سعيّد عن نواياه، وعن كيفية تنفيذ توجهاته.
فأزمة تونس في جوهرها أزمة دستورية، حاول الرئيس أن يواجهها بإجراءات استثنائية من أجل انتزاع بعض الصلاحيات المتعارف عليها في النظم الرئاسية الديمقراطية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.