هل ولادة الحكومة اللبنانية قريبة؟ ولماذا هذا الصراع حول الحقائب بين الأحزاب السياسية في لبنان؟
لعل هذين السؤالين هما أبرز ما يشغل بال اللبنانيين، الرازحين تحت أنقاض انهيار اقتصادهم وعملتهم، وأمواج الأزمات التي أصبحت تضربهم واحدة تلو الأخرى.
عودة إلى التاريخ، ومنذ إعلان دولة لبنان الكبير 1920 وحتى يومنا هذا لم تتشكل حكومة في لبنان بإرادة داخلية، وحدها التقاطعات الدولية العالمية والإقليمية التي تمر بهذا البلد هي التي صنعت الحكومات، من حكومة أوغست أديب باشا، والدور الفرنسي لتشكيلها، مروراً بالحكومات التي تشكّلت بضوء أخضر من الولايات المتحدة الأمريكية، أو بدعم من المصريين، أو أوامر من السوريين، أو تمنٍّ من السعوديين، أو بتسهيل من الإيرانيين، وهكذا كان دائماً تشكيل الحكومة في لبنان يخضع لمجموعة من التوازنات الداخلية المرتبطة بالخارج.
طوائف الأرز
يتألف لبنان من 18 طائفة، تتقاسم كبار الطوائف المقاعد الأساسية والحقائب المهمة، وهم الموارنة، والسنة، والشيعة، والدروز، والأرمن، والكاثوليك الأرثوذكس، وباقي الطوائف يُعطَون مقعداً أو اثنين نسبةً لعدد الحقائب التي تتألف منها الحكومة، يُمثل الطوائف أحزاب، وترتبط هذه الأحزاب بارتباطات إقليمة ودولية، وبذلك ينشأ ارتباط بين تشكيل الحكومة في الداخل بمصالح الدول الراعية للأحزاب في لبنان، وتبعاً للصراعات الخارجية بين الدول ينعكس الأمر على حلفاء هذه الدول، فتعقّد ملف ما خارجي يعني تأزم الوضع الداخلي في لبنان، وظهور عُقد في تشكيل الحكومة، وخسارة الملف يعني التنازل من الحلفاء.
أما الانتصار الخارجي فيعني انتصاراً لحلفائهم في لبنان، والشواهد على ذلك كثيرة، ومتى ما حصل اتفاق خارجي فإن العُقد ومهما بلغت من تعقيد في لبنان ستختفي كأنها لما تكن، السؤال البارز اليوم: هل الحكومة قريبة؟ فعلياً اليوم الجواب ينطلق بالسؤال عن الدول التي تدخل على خط التشكيل، الأبرز هم الإيرانيون الذين يتمتعون اليوم بأكبر تحالف داخل البرلمان اللبناني، قريب منهم، وهو يتألف من حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر.
بالمقابل غاب الخصم المعتاد في السنوات الأخيرة، وهي المملكة العربية السعودية، وهو من الأمور التي تساهم في تأخير تشكيل الحكومة، راهن الرئيس الحريري على عودتها، لأن من المعروف أن المملكة العربية السعودية واحدة من أكثر الدول تأثيراً في الاقتصاد اللبناني، والرهان عليها كبير لإنقاذ لبنان من أزمته النقدية، ولكن الظاهر أنها تراهن على الانتخابات النيابية 2022، لتغير الأكثرية النيابية التي بيد حزب الله للعودة إلى الساحة اللبنانية.
وأي حكومة تتشكل تحت أكثرية حزب الله تعني أنها تخضع له، ويرى بعض المراقبين أن إحجام السعودية عن الحضور بدعم للحكومة من أبرز أسباب اعتذار الرئيس الحريري، بغياب الدور السعودي يحضر الأمريكيون، تقود السفيرة شيا محركات المفاوضات لتشكيل حكومة، يقابلها الرئيس ميقاتي بحماسة، وتعتبر أبرز دلالات اقتراب تشكيل حكومة انفجار لغم رفع الدعم، وهو الأمر الذي كان شرطاً أساسياً لأي رئيس حكومة قادم، بألا يتحمل في بداية فترة حكمه النتائج الشعبية لرفع الدعم.
اللغم الآخر هو موضوع الناقلة الإيرانية، حيث يُعتقد أنه لا حكومة قبل الانتهاء من نتائج الموضوع، وحتى ذلك الوقت كل الاحتمالات واردة، إصرار الوزير جبران باسيل على مجموعة كبيرة من الطلبات لحث الأمريكيين على مقايضة رفع العقوبات المفروضة عليه، قد يقابلها الرئيس ميقاتي باستقالة من دار الفتوى، معطوفة على تشكيل جبهة سنية بقيادة نادي رؤساء الحكومة ودار الفتوى.
صراع الحقائب
لا يمكن فهم الصراع حول الحقائب اليوم إلا بعد فهم بعض خفايا النظام اللبناني، بعودة تاريخية صغيرة لفهم الأسباب التي جعلت الوزارات بهذه الأهمية، قبل خلق لبنان، فقد كان النظام الاجتماعي في لبنان كباقي الأنحاء في المنطقة، مبنياً على نظام الإقطاع، فكان "البيك" والأمير والشيخ وغيرها من الألقاب يتحكمون في أحوال الشعب، فلا يستطيع أفراده أن يعملوا دون العودة إليهم، ليسمح لهم بالعمل في الأرض، أو بإعطائهم وظائف أو مالاً مقابل أن يبقوا تحت أمرهم.
وعندما بدأت ولادة النظام اللبناني أدخل العثمانيون ومِن بعدهم الفرنسيون رجال الإقطاع في مناصب عالية، فأصبح المواطن الذي يريد أمراً ما من الدولة يجد في الزعيم خَلاصه، وبذلك تحولت الوزارة إلى مركز خدمات الزبائنية لزعماء الطوائف، فيعكفون على إعطاء جماعتهم رخص بناء بشكل استنسابي، وفي الكثير من الأحيان بشكل مخالف، بتقديم الخدمات الصحية، وحصص من البنزين والمازوت، وتوظيفات في الدولة، أو استعمال سلطتهم لتوظيف جماعتهم في مؤسسات خاصة، ومنح دراسية، وإعفاءات ضريبية، وإعفاءات جمركية، وغيرها الكثير من الخدمات التي من المفترض أن تقدمها الدولة بشكل متساوٍ وقانوني.
فتقدم في النظام اللبناني عبر الوزارات إلى جماعات طائفية حزبية، إضافة إلى بعض الوزارات التي تسمى بـ"الوزارات السيادية"، والتي هي بمثابة إقطاعيات لزعماء الطوائف الكبرى، نظراً لثقلها في النظام، وتأثيرها العميق على قرارات الدولة، وهي وزارة الدفاع الوطني، الداخلية والبلديات، المالية، الخارجية والمغتربين، ثم تليها وزارت تسمى بالوزارات الخدماتية، وتكتسب وزارة الاتصالات أهمية كبرى لمجموعة من الأسباب، أهمها الدور الذي تلعبه على صعيد الاتصالات، وخاصة الأمنية والعسكرية.
ما يحدث اليوم أن الحكومة التي يفترض تشكيلها ستكون مشرفة على الانتخابات القادمة 2022، ومجلس النواب القادم هو المجلس الذي سينتخب رئيساً للجمهورية اللبنانية، ما يعني أن هذين الحدثين سيرسمان الحياة السياسة في لبنان لـ6 سنوات، وهي تمثل للأحزاب أهمية كبرى لخوضهم الانتخابات، أولها الاستفادة من كل ما ذكرناه سابقاً من فؤاد على الصعيد السياسي للأحزاب داخل المجتمع، خاصة مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والنقدية التي تضرب لبنان، إضافة إلى أن الصراع على وزارة الداخلية يعني السيطرة على الوزارة التي تشرف على الانتخابات، فيكون للوزير السلطة على غض النظر عن تجاوزات قانونية لحزبه وحلفائه، قد تصل إلى تزوير الانتخابات، أو التضييق على المنافسين.
وعطفاً على الواقع اليوم، وفي حضور الوزير جبران باسيل بثقله الأكبر في البرلمان كأكثر الأحزاب تمثيلاً للمسيحيين، يرى الفرصة الأكبر له في خلافة عمه في رئاسة الجمهورية، وضياع هذه الفرصة قد تعني ضياع حلمه، لذلك فهو يتمسك بالحصول على أكبر الحصص في الوزارة، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الحقائب السيادية والخدماتية، يراهن على رد الجميل من حزب الله نتيجة تحمله العقوبات الأمريكية، إضافة إلى رهانه الدائم على السياسة الأمريكية التي تفاوض إيران في أكثر من ملف، فتكون خواتيم المفاوضات لمصلحته في النهاية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.