اشتهرت تونس عبر تاريخها بالقدرة الاستثنائية على ولادة المفكرين في الحضارة الإسلامية. فهي أرض ودودٌ ولودٌ ذات أياد بيضاء على الحضارة الإسلامية رغم مساحتها الصغيرة. غير أن الجديد في سجلها الثقافي هو ولادة الكُهَّان السُّجَّاع بعد اختفائهم منذ ظهور الإسلام. فقد ماتتْ ذكرى شقٍّ وسِطِّيحٍ ومسيلمة إلى أن ظهر في تونس آخر الكهان الناطقين بالعربية: الرئيس قيس سعيد.
كانت وظيفة الكاهن في الجاهلية الحكم القضائي بين الناس، والتنبؤ بالمغيبات. ويقوم الكاهن بعمله ذلك اتكاءً على دعامتين: الألاعيب اللغوية، ومعرفة القوانين والأعراف في الثقافة الجاهلية. ويمتلك الأستاذ قيس سعيد هاتين الخصلتين وعليهما يعتمد. فهو فقيه دستوري عارف، ومتحدثٌ لعَّابةٌ باللغة، ومتكلفٌ سجّاع.
دخل الأستاذ قيس سعيد إلى الفضاء السياسي وبين يديه كل أدوات الكاهن الجاهلي. فقد ظهر معتمداً على قدراته اللغوية، وواعداً بغيبياتٍ يصعب تحقيقها. فحدث الناسَ بلسان عربي في زمن العي والحَصَر، ووعد بتحويل كل حي تونسي إلى برلمان يقرر في أموره، ووعد بتدريس الفلسفة للأطفال في الابتدائية، وبتحويل تونس إلى جنان. وعد بكل ذلك رغم دوره المتواضع باعتباره رئيساً نصفَ شرفي حسب الدستور. لكن حس الكاهن أبى إلا أن يغلبه فوعد وعود الأسخياء وهو المعدمُ المجدب بنص القانون. وقد تحمل الناس الرجلَ وتفهموا معيشته داخل أسوار اللغة والشعوبية المزيفة. لكن المفاجأة جاءت يوم انكشف ما كان الرجل يرتب له في غرفه المغلقة داخل قصر قرطاج.
من غدر اللغة أن من مرادفات الكاهن كلمة "الطاغوت". ولهذا فسر كثير من العلماء قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} بأن الطاغوت: هو الكاهن. ولو نجح الرجل -وما كان له أن ينجح- لرأينا أول كاهن يتحول ملكاً في تاريخنا.
الكاهن طاغوتاً
ظهرت وثائق نشرها موقع "ميدل إيست آي" البريطاني تثبت أن قيس سعيد يخطط لانقلاب سيضع تونس على طريق لا يمكن التنبؤ بنهاياته. فقد خطط، حسب "ميدل إيست آي"، لدعوة رئيسيْ البرلمان والوزراء إلى القصر للتشاور بنية اعتقالهما، ثم يقطع الكهرباء والنت عن القصر كلياً. وبعد ذلك يأمر باعتقال من تُتوقع منه المعارضة (نواب ائتلاف الكرامة وبعض السياسيين) ويُعيّن جنرالاً وزيراً للداخلية، ثم يخرج على الناس ساجعاً سجع الكهان، متحدثاً عن أنه قام بتفعيل المادة 80 من الدستور، وأن كل السلطات غدت في قبضته، وهو ما جرى.
من الواضح أنها خطة كاهن حالم، لا فكرة سياسي محترف. فالتونسيون الذين ثاروا -رغم البطش الكاسح- على بن علي ما كانوا سيتفرجون على قيس سعيد وهو يلعب بمصائر أبنائهم.
لقد كان الكاهن يسعى ليتحول ديكتاتوراً. ومن غدر اللغة أن من مرادفات الكاهن كلمة "الطاغوت". ولهذا فسر كثير من العلماء قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} بأن الطاغوت: هو الكاهن. ولو نجح الرجل -وما كان له أن ينجح- لرأينا أول كاهن يتحول ملكاً في تاريخنا.
الشعبيون الجدد
إن الحالة القيسية مثال لنمط جديد يمكن تسميته بالشعبوية السلبية. فقد كان الشعبوي التقليدي ملتحماً بالجماهير، حانياً عليها، موافقاً لها في أفكارها، مستعداً للتضحية في سبيل ما تريده. وكان ذاك النمط من الشعبويين يقومون بخطوات سياسية تؤدي غالباً بمستقبلهم السياسي إيماناً منهم بصحة ما تريده الجماهير مهما خالف قواعد السياسة. فيؤمّمون الشركات، ويوزعون الأموال ويقفون المواقف الأخلاقية دافعين ضريبتها الباهظة. ولعل في الأذهان أسماء معروفة مثل هوغو شافيز، وإيفو موراليس وآخرين. والشعبيون التقليديون ثوارٌ بالفطرة؛ فهم قوم يأتون إلى السلطة من خنادق المقاومة أو من عتمات السجون، تلمع نياشينُ التضحيات على أكتافهم. أما قيس فهو "شعبوي" لم يسجل له التاريخ موقفاً مراغماً للظلمة، ولا مناصراً للشعوب، بل أخرج رأسَه من قمقمه متلفتاً يوم غدت تونس حرة لا خوف فيها.
إن الشعبوية القيسية نمط مختلف من الشعبوية. فهي تقوم على توظيف الكلام لخداع الناس فحسب، وليس للتعبير عن تطلعاتهم. فالرجل أشبه ما يكون بشعبوية العسكريين العرب التقليديين. فهو يقف متحدثاً -وعروقه بارزة- كأنه في "صوت القاهرة" في السبعينيات. يتحدث كأنه عسكري عربي يقرأ البيان رقم واحد في الستينيات. لكن هذا الكلام وهذه الشعبوية اللغوية تتوارى عند أول زيارة لفرنسا مثلاً.
ففي الوقت الذي كان فيه التونسيون ينتظرون من الرجل أن يتحدث عن ضرورة اعتذار فرنسا عن احتلال تونس، ظهر الرجل كأنه تمثال بين يدي ماكرون. ثم تحدث عن أن "فرنسا لم تحتل تونس" وقام بالاعتذار باسم تونس لماكرون عن القائمة التي طرحها البرلمان التونسي لمطالبة فرنسا بالاعتذار.
لكن من محاسن الديمقراطية أنها تصحح أخطاءها. فلا ضير أن ينخدع شعب فينتخب الشخص الخطأ. فسيعود ذلك السياسي يوماً طالباً من الناس أن يجددوا له العهدة. وحينها، لن يرحمه إلا عمله وبلاؤه.. ولن ينطلي سجع الكهان وحيلهم على أي تونسي.
إن من الوظائف الأساسية للديمقراطية صناعة الوعي المتأني. ذلك الوعي الذي يرمي كهّانَ السياسة بالشهب. فسماء البلدان الديمقراطية سماءٌ لا يستمر فيها الزيف طويلاً. سماءٌ لابد أن يصبح فيها الكاهن ذاتَ صباح مُعكَّر المزاج، يقلب طرفَه في السماء متمتماً: "وأنّا لمسنا السماءَ فوجدناها ملئتْ حرساً شديداً وشهباً".
حرس الوعي وشهب الناخبين الأحرار.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.