حتى كتابة هذه السطور، وبعد يومين من تصدّر تونس عناوين الأخبار عقب القرارات التي أصدرها الرئيس التونسي قيس سعيّد ليلة الأحد 25 يوليو/تموز، التي نُظر إليها باعتبارها "انقلاباً"، أو في أحسن الظروف تأويلاً غير سليم للدستور التونسي، فإنه يمكننا القول إن حزب النهضة قد وقع في 3 أخطاء رئيسة أسهمت في اشتعال هذه الأزمة، كما أسهمت في تحديد المسار الذي سارت فيه.
أخطاء حزب النهضة
الخطأ الأول لحزب النهضة هو خطأ استراتيجي بدأ مع بداية الثورة التونسية وظل مستمراً طوال العقد الماضي، وهو مرتبط بمشروع الحزب السياسي نفسه والأولويات التي وضعها للمرحلة الانتقالية. هذا الخطأ هو فصل المطالب السياسية عن المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وهذا الفصل هو خطأ استراتيجي، فالديمقراطية لدى السياسي مهمة لأنها تضبط قواعد اللعبة السياسية، ولكنها لدى المواطن مهمة إذا كانت قادرة على أن تعمل بصورة جيدة فتوفر الوظائف للعاطلين، وتجلب العدالة للمظلومين، وتخفف حدّة المشاكل الاجتماعية التي يعيش فيها المواطنون؛ ففي نظر المواطن العادي، الديمقراطية ليست مهمة في ذاتها، بل مهمة بما تقدمه له من مزايا وخدمات.
فإذا كانت الانتخابات تتم بنزاهة، والأحزاب تتنافس بشراسة، وتتغير الوجوه السياسية من دورة إلى أخرى من دون أن يكون ذلك مصحوباً بأي تغيير في مستوى حياه الناس ومعيشتهم، فلن يكون من المستغرب أن تبدأ قطاعات واسعة من المواطنين التشكيك في الديمقراطية، والتساؤل عن الفرق بين النظام الديمقراطي الحالي والنظام الاستبدادي السابق. حزب النهضة جعل هدفه الأساسي ضمان حدوث انتقال ديمقراطي، وهو مطلوب سياسي مهم بامتياز، ولكنه تناسى في الوقت نفسه أن نتيجة هذا الانتقال الديمقراطي يجب ألا تقتصر على ضمان نزاهة الانتخابات، بل يجب أن تشمل أيضاً ضمان التحسن في حياة المواطن التونسي. ونتائج الدورة السادسة للبارومتر العربي التي صدرت في 2021 أظهرت أن هناك واحداً من كل 10 أو أقل، بين التونسيين، يقول إن الأوضاع الاقتصادية إيجابية في البلاد، في حين قال ثلثا التونسيين إنهم يخشون فقدان مصدر دخلهم في غضون 12 شهراً المقبلة. وفي مثل هذه الظروف، سيكون من المتوقع أن يبدأ الناس التساؤل عن جدوى الديمقراطية إذا لم تكن قادرة على تحسين حياتهم.
الخطأ الثاني الذي وقع فيه حزب النهضة هو خطأ تجلّى خلال الأشهر القليلة الماضية وأظهر بشكل كبير أن الحزب غير قادر على التفاعل مع المشهد السياسي الجديد. فالنهضة تبنّت استراتيجية دائمة من الحوار والتفاوض وعقد التحالفات السياسية مع الفرقاء السياسيين من أجل الخروج من الأزمات السياسية وضمان الانتقال الديمقراطي، وشرط نجاح هذه الاستراتيجية هو رغبة الأطراف السياسية الرئيسية في عقد مثل هذه التفاهمات والتوافقات، فرغبة طرف واحد في عقد مثل هذه التفاهمات غير كافية، بل يجب أن تكون مصحوبة برغبات مماثلة من الأطراف الأخرى. والقدرة على الاتفاق على حزم سياسية تضمن الخروج من الأزمات السياسية كانت سمة في المشهد التونسي بعد الثورة، وهي سمة غابت عن كثير من البلدان العربية.
ولكن تصرفات قيس سعيّد خلال الشهور الأخيرة أوضحت أنه ليس لديه هذه الرغبة في عقد الاتفاقات، فالرجل يحقق مكاسب بخطابات فارغة المضمون لكنها مرتفعة الصوت، وهو يهتم بالأداء التمثيلي والمظهري أكثر من اهتمامه بالأداء السياسي والخدماتي. ثم إنه أظهر في مرات عدة رغبته في تجاوز الدستور. فإذا كان الرجل الجالس في رئاسة الجمهورية التونسية أظهر مثل هذه الرغبات في تجاوز الدستور، وليست لديه رغبة في عقد تفاهمات سياسية، ويقتات من المزايدة والخطابات الشعبوية، فكل هذه مؤشرات تدفع النهضة إلى مراجعة استراتيجيتها، ليس بالضرورة من أجل استبدالها باستراتيجية أخرى، ولكن من أجل التفاعل مع هذا الوضع الجديد بآليات ووسائل مختلفة عن تلك التي كانت معتادة في الماضي.
وفي الأشهر الأخيرة، بدت النهضة كأنها اعتادت شكلاً معيناً من السلوك والتصرفات السياسية، وأنها غير قادرة على التفاعل مع السياق الجديد الذي يتكون في تونس، وبدل من أن تكون في خانة الفعل فإنها بقيت في خانة رد الفعل، على أمل تجنب السيناريو الأسوأ، ولكن هذا لم يحدث مع الأسف.
وهذا ينقلنا إلى الخطأ الثالث المتمثل في جملة أخطاء تنفيذية بامتياز مرتبطة بتصرف النهضة في ليلة صدور قرارات قيس سعيّد. فالدقائق الأولى في مثل هذه الأزمات السياسية تكون حاسمة في تحديد مسارها، ولكن النهضة في الساعات الأولى سكنت في خانة رد الفعل البطيئة على نحو غريب، إذ أقام الحزب اجتماعاً في ليلة الانقلاب استمر ساعات ليخرج بقرار تم تنفيذه قبيل الفجر.
وبينما كان هناك علامات للارتباك، وتساؤل عما إذا كان الجيش والداخلية سوف يستجيبان لقرارات قيس سعيّد، وما إذا كانت هناك معارضة داخل هذه المؤسسات لمثل هذه القرارات، فإن سعيّد بعد أن أصدر الأوامر إلى الجهات المختلفة، تحرك بنفسه ليتثبت من أن هذه الجهات ستقوم بتنفيذ ما هو مطلوب منها، وعمل على أن يقضي بنفسه على أي إمكانية للتردد أو التلكؤ يمكن أن تحدث داخل هذه المؤسسات. ولكن في هذه الليلة، بدا التراخي والترهل ظاهرين في أداء الحزب والغنوشي معاً.
فإذا كان الحزب قد اتخذ قراراً بالتوجه إلى مجلس النواب فليس أقل من استدعاء أغلب أعضاء الكتلة البرلمانية للنهضة (فضلاً عن الأحزاب الأخرى) للذهاب مع الغنوشي بدلاً من أن يظهر المشهد في النهاية في صورة رجل عجوز وامرأة وجمع صغير من الناس يستجدي ضابط الجيش لفتح أبواب مجلس النواب. وإذا كان هناك قرار باعتصام رئيس الحزب أمام مجلس النواب، فأين الجموع التي ستقف إلى جانبه وتدعمه في هذا القرار؟ لقد كانت هذه القرارات متأخرة، وكانت سيئة في تنفيذها أيضاً. الغنوشي سياسي مخضرم، وعاصر تجارب سياسية مختلفة ومرّ بأزمات سياسية متعددة استطاع الخروج منها بأقل الخسائر، لكنه في هذه الليلة بدت عليه آثار المرض والسن معاً. أما الحزب، فقد أظهرت هذه الليلة أن ماكينته لا تعمل بالكفاءة المطلوبة.
المتسبب الحقيقي
لا ينبغي لمثل هذه الأخطاء التي صدرت من حزب النهضة أن تنسينا المتسبب الحقيقي في هذه الأزمة، إنه قيس سعيّد وقرارته. لقد وقع حزب النهضة في أخطاء ذكرنا بعضها لكن قيس سعيّد وقع في خطيئة بتجاوزه الدستور وتعطيله المؤسسات المنتخبة، واستغلاله آلام الناس المعيشية والاقتصادية من أجل تعزيز قبضته على السلطة. في كل الأحوال، ما زلتُ أظن أن تونس لديها إمكانية للخروج من هذه الأزمة بخسائر أقل كثيراً من دول أخرى مجاورة، ونتمنى أن تحوّل الأيام المقبلة هذه الأمنية إلى حقيقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.