في مقابلة مع أحد دراويش كرة قدم، المدرب الأرجنتيني أنخيل كابا، مَن عملوا في الكواليس وأسسوا لمبادئ ومفاهيم سار عليها من أراد التميز في اللعبة، ذكر أن الطرف الأبطأ على المستطيل الأخضر هو الأقل موهبة من الناحية الفنية. لكن عندما سئل إن كان اللاعب تشافي هيرنانديز أسرع من العدّاء الجامايكي يوسين بولت هز أنخيل كابا رأسه موافقاً.
لاعبون مثل تشافي وغوارديولا ولاودروب يمكنهم أن يخسروا في سباق سرعة عادي أمام لاعبين آخرين، لكن في كرة القدم السرعة مختلفة، والقوة أيضاً مختلفة. القوة ماكرة، أمثال أولئك اللاعبين يتخيلون ويفكرون ويقررون بشكل أسرع بفضل الذكاء الكروي والحس التقني النادر الذي يتمتعون به. لو كانت كرة القدم معتمدة كلياً على التفوق البدني لما تمكن أندريس إنييستا مثلاً من لعب كرة القدم!
معضلة العقل أم العضلات
لوهلة تذكرتُ تصريحاً للإيطالي دانتي باريزي عندما قال "اللاعبون السريعون لا يقدمون كرة قدم سريعة، كرة القدم السريعة تخرج من العقول السريعة". نفس الأمر أكد عليه فيرناندو سينيوريني، المدرب والمعد البدني الأرجنتيني عندما قال، "غرام واحد فقط من أنسجة خلايا المخ يزن أكثر من 80 كيلوغراماً من العضلات".
ربما لا تقنع تلك الرؤى محبي الاندفاع البدني والجرينتا، لكن لنعد إلى الوراء قليلاً، بداية ثاني عقد في الألفية، عهد بيب غوارديولا مع برشلونة، أحد أقوى وأشمل الفرق التي مرت على تاريخ كرة القدم، وحدق ببصرك لمنتصف الملعب، سترى ثلاثياً بخط الوسط هم تشافي هيرنانديز وسيرجيو بوسكيتس وأندريس أنيستا، ورابعهم ليونيل ميسي، جميعهم لاعبون بلا كتل عضلية ضخمة، ضعفاء بدنياً مقارنة بنظرائهم في ريال مدريد وتشيلسي ومانشستر يونايتد آنذاك، لكن العجيب أنهم كانوا أقوى خط وسط في العالم قادر على افتكاك الكرة سريعاً عن طريق الضغط العكسي والتفوق على لاعبين أقوى منهم بدنياً.. هل تعرف لماذا؟ لأنهم يبنون منظومة قوية بوعيهم التكتيكي والتموضعي الكبير، وهذا هو صلب موضوع هذا المقال.
الوعي بالزمان والمكان يحتاج إلى قدرات ذهنية فائقة، أهمها هو المسح الدائم للملعب أو ما يسمى بالـScanning.
الوعي التموضعي هو عصب اللعب المركزي
لطالما قلنا إن اللعب المركزي هو حاضر ومستقبل كرة القدم، وأن بناة المشاريع طويلة الأمد غالبيتهم يتبنون ذلك الأسلوب، الذي يسمى بـ"أم الأساليب". كل الأساليب الأخرى مقتبسة من أفكار أو مبادئ اللعب المركزي، كما ذكر في كتاب "قاموس كرة القدم". من مبادئ اللعب المركزي الفرعية مبدأ "ديناميكية اللعب"، أي عدم فصل الدفاع عن الهجوم، والاستعداد للهجوم أثناء الدفاع بشكل غير مباشر والعكس صحيح، لن تتم الديناميكية إلا بصناعة هيكل تكتيكي قوي يكون على شكل شبكة مكونة من اللاعبين عن طريق انتشار جيد يضمن تكوين أشكال هندسية بمسافات مناسبة بين اللاعبين، تمكن الفريق في الحالة الهجومية من تكوين عدد كبير من خيارات التمرير، ما يساعد على تدوير الكرة والهيمنة وفتح الثغرات واللعب بين خطوط المنافس.
ويمكن ذلك الهيكل الفريق دفاعياً بأن يكون حاكم قبضته على المساحات عن طريق الانتشار الجيد، ثم الانقضاض على حامل الكرة فور فقدانها وغلق زوايا التمرير عليه وقتل تحولات الخصم قبل بدايتها واستعادة الكرة مرة أخرى. كل ذلك لن يتم بناؤه بشكل سليم إلا إذا امتلكت لاعبين ذوي وعي موضعي عالٍ، يدركون مراكزهم جيداً، ويعرفون كيف ومتى يتحركون ويتمركزون. الوعي بالزمان والمكان يحتاج إلى قدرات ذهنية فائقة، أهمها هو المسح الدائم للملعب أو ما يسمى بالـScanning.
مسح الملعب
تشافي هيرنانديز أحد أفضل صناع القرار في كرة القدم يقول "في كل مرة لا أقوم فيها بعمل بالمسح أعيد الكرة مرة أخرى إلى زميلي الذي استقبلتها منه". تشافي لا يستطيع أن يتخذ قراراً صحيحاً في الملعب إلا إذا قام بعمل مسح مرئي للملعب قبل تسلّم الكرة، هذا ما يجعل اللاعب سابقاً لمن حوله بقراره. بالتالي يستطيع التفوق عليهم. الفرنسي أرسين فينغر، أحد أهم المدربين المشهورين بتطويرهم للاعبين، يركز على أهمية المسح في اللعبة، يهتم فينغر بمراقبة آخر 10 ثوانٍ للاعب قبل تسلّمه للكرة، ويحدد كم مرة يقوم فيها اللاعب بعمل المسح وقراءة الملعب في تلك المدة، يقول فينغر إن اللاعب الجيد يقوم بعمل مسح مرئي من 6 إلى 8 مرات في آخر 10 ثوان قبل تسلمه للكرة، واللاعبون العاديون من 3 إلى 4 مرات في نفس المدة.
الدكتور جير جورديت، وهو أستاذ في علم النفس، قام بعمل بحث حول العلاقة بين عدد المرات التي يقوم فيها اللاعب بعمل المسح، وبين الإنتاجية الكروية، قام بتلك الدراسة حول 64 لاعباً، درس حوالي 1279 حالة لعب.
وفي النهاية، قام بتحليل نتائج التمريرات التي قام بها اللاعبون بعد عمل المسح مقارنة بعدد المرات التي قاموا فيها بمسح الملعب، وقسم النتائج إلي ثلاثة أقسام، القسم الأول اللاعبون الذين قاموا بمسح أكثر، والقسم الثاني اللاعبون الذين قاموا بمسح متوسط، والقسم الثالث اللاعبون الذين قاموا بمسح قليل.
نجح من لاعبي القسم الأول من يقومون بعمل المسح المرئي بشكل أكبر، بعمل تمريرات ناجحة بنسبة 81%، ولاعبو القسم الثاني أتموا تمريراتهم بنسبة نجاح 68%، أما أولئك الذين يقومون بمسح قليل فنسبة نجاح تمريراتهم 64% فقط. كلما زادت عمليات المسح زادت نسبة نجاح التمريرات، جعل جورديت الدراسة أكثر دقة حول 55 لاعباً، بين عدد مرات المسح قبل تسلم الكرة وبين نسبة نجاح التمريرات التقدمية التي تخترق خطوط الخصم، بلغت نسبة إتمام التمريرات الأمامية للاعبين الذين تفحصوا بشكل أكبر 75% والذين فحصوا الملعب بشكل أقل بلغت نسبة إتمام تمريراتهم الأمامية 41%.
جعل جوردت الدراسة أكثر عمق، وقام بمقارنة عدد المرات التي يقوم فيها اللاعب بالمسح، ونجاح التمريرات الأمامية في نصف ملعب الخصم، وجد أن اللاعبين الأكثر في المسح نجحوا في تمريراتهم الأمامية في نصف ملعب الخصم بنسبة 77%، والأقل في المسح نجحوا بنسبة 44%، هذا تأكيد كبير على تأثير المسح المرئي على نجاح قرارات اللاعبين، بالتالي يؤثر بإيجابيهم على وعيهم الموضعي.
هل المسح المرئي موهبة فطرية أم مهارة مكتسبة؟
قابل جوردت فرانك لامبارد وتوني كار الذي كان مسؤول عن أكاديمية ويست هام بعد عمله لتلك الدراسة، وكان لامبارد أحد أقوى وأشهر اللاعبين في عمل المسح المرئي، سأله جوردت، لماذا كنت تقوم بعمل المسح كثيراً؟ رد لامبارد قائلاً " لا أعرف من أين أتت، ربما ولدت معي".
هذه إجابة ربما تجعلنا أن نشك بأن المسح الضوئي موهبة بالفطرة، لكن فرانك كار كانت لديه إجابة واضحة هنا، قال "في المباراة الأولى التي لعبها فرانك لامبارد مع ويستهام كان والده يجلس في المدرجات ويصرخ على ابنه طوال الوقت، وكان يقول نفس الأشياء، صور، صور، صور، لقد أراد أن يكون لدى فرانك صورة في عقله دائماً عن الوضع حوله، هذا كل شيء". من هنا ندرك أنه لم يولد بها، بل مع صرخات والده، أصبحت مهارة مكتسبة، لامبارد كان يقوم بالمسح بمقدار 0.62 في الثانية، وهذا رقم كبير، أما تشافي فيقوم بذلك 0.83 في الثانية، وهذا أكبر معدل في الدراسة، وهذا هو سر إبداعات تشافي هيرنانديز في البحث عن المساحات، وفي اتخاذ القرارات، وفي نجاح تمريراته الكاسرة للتكتلات.
كرة القدم هي لعبة ولحظة ذهنية كما أخبرنا خوانما ليو مساعد بيب غوارديولا في مانشستر سيتي ومعلمه سابقاً، في النهاية لا بد من أن يعمل مدربو الأكاديميات والفئات السنية على تلك المهارة مع لاعبيهم، بدلاً من التركيز الشديد على التدريبات البدنية النمطية، المسح المرئي سيمكنهم من كشف وقراءة ما يدور حولهم، وبناء على ذلك سيمتلكون وعياً موضعياً جيداً، وبناء على ذلك سيصبحون جميعهم في ملعب كرة القدم أسرع من يوسين بولت.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.