لكم وددت وتمنيت لو كنت مخطئاً تلك المرة، وأنَّ الوثيقة التي نشرناها في مايو/أيار وتُفصِّل كيف سيسيطر قيس سعيد على تونس ويقوض الدستور ويغلق البرلمان، كانت مُختلَقة. في ذلك الوقت، تعرضت لانتقادات بسبب تلك الوثيقة. وقيل لي إنه لا يوجد مثل هذا المخطط، وإنها نتاج صلاتي بالإسلاميين. لكن الحقيقة أنَّ مصدر الوثيقة كان علمانياً من داخل مؤسسة الرئاسة نفسها.
على مدى السنوات العشر الماضية، تدحرجت تونس من أزمة سياسية إلى أخرى، لكنها تمكَّنت بطريقة ما من النجاة لتكون آخر الصامدين بين دول الربيع العربي. ولم تكن الوثيقة مجرد رسالة عابرة وقعت من صندوق البريد الرئاسي، مثلما أكد قيس سعيد نفسه بعد أربعة أيام بعدما أُجبِر على الاعتراف بأنَّ الوثيقة حقيقية. بل كانت خطة واضحة المعالم وضعها مستشاروه الأقرب.
وجاء في الوثيقة، التي كشف عنها موقع Middle East Eye، أنه بعد استدراج رئيس الوزراء هشام المشيشي ورئيس مجلس النواب راشد الغنوشي إلى القصر واحتجازهما هناك، سيُعيَّن اللواء خالد اليحياوي وزيراً للداخلية بالإنابة.
وهذا ما حدث صباح الإثنين، 26 يوليو/تموز. إذ كُلِّف اليحياوي بالمنصب ليكون الرجل الذي يقود الحملة التي تُنفَّذ الآن ضد السياسيين والصحفيين.
ولم يقتصر الأمر على استيلاء سعيد على جميع السلطات التنفيذية، بل عيّن نفسه أيضاً مدعياً عاماً. وتُصوَّر أفعال سعيد من مؤيديه على أنها رد فعل على الدمار الذي أحدثه الوباء بالبنى الاقتصادية والسياسية بالبلاد. لكن في وقت تسريب الوثيقة، لم يكُن الفيروس قد عاث فساداً في تونس كما هو الحال الآن.
انقلاب الأحد، 25 يوليو/تموز، لا علاقة له بالفيروس، بل خُطِط له في وقت كان الفيروس تحت السيطرة.
سامية عبو، إحدى أنصار سعيد، من التيار الديمقراطي، التي رحبت بخطوات سعيد، كشفت هذه الحقيقة بقولها يوم الأحد، 25 يوليو/تموز، إنَّ "القرارات الرئاسية دستورية وتاريخية. وكان على الرئيس أن يتخذها منذ فترة".
ببساطة.. انقلاب محض
ووصفت الوثيقة، المُصنَّفة بأنها "في غاية السرية"، هذه الخطة بأنها انقلاب دستوري. لكن ما حدث ليل الأحد تجاوز حدود الدستور بكثير. ينص الدستور على أنه عند تفعيل المادة التي تسمح للرئيس بممارسة سلطات الطوارئ، يُجبَر البرلمان على الانعقاد المستمر، ولا يمكن حله. لكن في الواقع، علَّق سعيد عمل البرلمان وعزل أعضاءه.
ويعتمد تفعيل المادة الـ80 على المحكمة الدستورية، التي منع سعيد البرلمان من تشكيلها، برغم أنه بموجب الدستور ينتخب البرلمان أربعة فقط من 12 عضواً بها.
عياد بن عاشور هو أبرز أستاذ دستوري تونسي، وكان شخصية جوهرية في صياغة الوثيقة الانتقالية والدستور وقانون الانتخابات، كما كان رئيس الهيئة التي أدارت الفترة الانتقالية في 2011. وهو علماني ولا يدعم الإسلاميين، يرى أنَّ ما حدث انقلاب "بمعنى الكلمة".
بدوره، قال نبيل بفون، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، إنَّ اللجنة في "حالة صدمة".
جميع المؤسسات التي أُنشِئَت بعد الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وكل ما أفرزته ثورة 2011 لوضع تونس على طريق الديمقراطية، بغض النظر عن ميولها السياسية، تقاوم تصرفات سعيد.
لا يوجد شيء دستوري في هذا الانقلاب. هذا ببساطة انقلاب محض مثل الانقلاب الذي أطاح بمحمد مرسي في مصر عام 2013 وحاول الإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا عام 2016. وتعارضه تقريباً كل الأحزاب في تونس؛ من جناح اليسار إلى اليمين، ومن العلمانيين إلى الإسلاميين: النهضة، وائتلاف الكرامة، وقلب تونس، والجمهورية، وليس بأقل منها التيار الديمقراطي نفسه الذي تنتمي إليه سامية عبو.
وليس من الصعب معرفة السبب؛ ففي العالم العربي، بمجرد أن تستولي على كل السلطة، لا تعيدها. ولم يُخفِ سعيد رغبته في تغيير النظام السياسي في تونس. فقد كان المشيشي، رئيس الوزراء الذي اصطدم معه، من تعيين سعيد، وصدَّق عليه البرلمان. لكن اتسعت الخلافات بين الرجلين عندما رفض سعيد المصادقة على التعيينات الوزارية للمشيشي.
لم يكن الصراع بين الرئيس ورئيس الوزراء أيديولوجياً؛ إذ لم يكن أي من الوزراء سياسياً، ولم يكن لحركة النهضة أي يد في اختيارهم. كان من المفترض أنها حكومة تكنوقراط. وكان الخلاف حول السلطة، وسعيد يريدها كلها.
من حالمٍ إلى ديكتاتور
في النهاية، كان أستاذ قانون مستقل مثل سعيد، وليس اليد الحذرة من النظام القديم مثل الباجي قايد السبسي، هو الذي سَطَر تجربة تونس مع الديمقراطية. ويُحسَب للسبسي أنه قاوم الأموال المعروضة من أبوظبي لقمع حزب النهضة. بدلاً من السجون والدماء اختار فن التسوية السياسية. ونتيجة لذلك، انهار حزبه لكن تونس لم تنهَر. ومثل هذا الفن هو لعنة بالنسبة لسعيد، الدخيل الذي لا يوجد خلفه حزب سياسي، والذي كان يدعمه حزب النهضة باعتباره البديل الأقل سوءاً بين مرشحي الرئاسة.
وصف نضال مكي- الذي درس تحت يده- قيس سعيد بأنه حالم يسعى إلى التغيير الجذري عندما يتولى الرئاسة. وقال نضال لموقع Middle East Eye في عام 2019: "سعيد لديه بعض التحفظات بشأن طريقة ممارسة الديمقراطية التمثيلية وتجربتها في تونس. هو لا يعارضها معارضة قاطعة، لكنه يود تصحيحها من خلال إدخال جرعة من الديمقراطية المباشرة".
بيد أنَّ سعيد أثبت أنه مصدر عدم الاستقرار السياسي؛ إذ اتسم حكمه بالتأرجح بين التهديد والتهدئة. وفي أبريل/نيسان، ادعى أنه كان القائد الأعلى لكل من الجيش وقوى الأمن الداخلي في البلاد، عندما وضع الدستور القوى الداخلية تحت سيطرة رئيس الوزراء.
وفي يونيو/حزيران، أعاد كتابة التاريخ التونسي بمفرده بالقول إنَّ فرنسا ليس لديها ما تعتذر عنه من حكمها الاستعماري لبلاده. وأعلن سعيد أنَّ تونس كانت تحت "الحماية" الفرنسية وليس الحكم الاستعماري. وبالنظر إلى عدد التونسيين الذين اُغتيلوا واغتُصبوا في ظل الحكم الاستعماري منذ عام 1881، فإنَّ هذا الإعلان يتطلب بعض الغطرسة.
لكن انحرافات نظامه الكثيرة لها اتجاه سياسي واحد. وكان دافعه الوحيد لإحباط تشكيل المحكمة الدستورية مراراً وتكراراً- على الرغم من اختيار أربعة من قبل الرئاسة، وأربعة من البرلمان وأربعة من القضاء- هو إلغاء وجود الهيئة التي يمكن أن تحكم بأنَّ تحركاته غير دستورية.
وبصفته أستاذ قانون، يمكن للمرء الاعتقاد أنَّ مبدأ الفصل بين السلطات متأصل في شخص مثله. لكن سعيد لا يعترف بأخطائه ولا يتحمل مسؤولية معاناة التونسيين. الفوضى التي تدب في الحكومة هي من صُنعِه، وهو ما ستعرفه تونس قريباً بعدما حيّد سعيد البرلمان وحجب المعارضة السياسية.
في لحظة، تعلن الرئاسة أنها تلقت 1000 جرعة من اللقاح المضاد لـ"كوفيد-19″ من الإمارات، وتنتشر شائعات بأنَّ عدداً من البرلمانيين والمسؤولين حصلوا على التطعيم بالفعل. ثم في اللحظة التالية، تنفي الرئاسة علمها بوجود مثل هذه "الهدية".
آخر الناجين
على مدى عشر سنوات، انتقلت تونس من أزمة سياسية إلى أخرى، لكنها تمكَّنت بطريقة ما من الصمود لتكون آخر الناجين بين دول الربيع العربي.
لم يكن حزب النهضة مثل الإخوان المسلمين في مصر؛ فقد تراجع وتخلى عن السلطة طواعيةً، وأبرم صفقات لتقسيم المعارضة. لكنه لم يستطِع تحقيق التغيير الاقتصادي الذي كانت بلاده في أمسِّ الحاجة إليه. وبالنسبة للتونسي العادي، وخاصة الشباب، تدهورت الأوضاع من سيئ إلى أسوأ.
وخلال أغلب تلك الفترة، لم يكن حزب النهضة يسيطر على البلاد أو الحكومة، لكنه كان يناضل من أجل إنشاء مؤسسات مثل البرلمان، والمحكمة الدستورية التي من شأنها ترسيخ تونس دولةً ديمقراطية.
إذا كانت التجربة التونسية مع الديمقراطية قد وصلت بالفعل إلى نهايتها؛ فهذا يعني أنَّ التونسيين سيقبلون حُجّة الديكتاتوريين في جميع أنحاء العالم العربي بأنهم ليسوا مستعدين للديمقراطية، وأنهم لا يصلحون إلا للديكتاتوريين الهشّين والأشرار.
لا أعتقد أنَّ الربيع العربي قد مات، ولا أعتقد أنَّ الشعب التونسي مستعد للعودة إلى حكم الرجل الواحد. ويمكن أن تثبت الأيام التالية أنني على حق مرة أخرى.
- هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.