لم تكن القرارات التي أعلنها الرئيس التونسي قيس سعيد بالتزامن مع عيد الجمهورية مفاجئة للطبقة السياسة التونسية فقط، بل مثلت منعرجاً جديداً يصفه البعض بتصحيح مسار وآخرون بالانقلاب.
سعيد في خطابه مساء 25 يوليو/تموز الجاري، أعلن جملة من القرارات ضمن التدابير الاستثنائية التي يمنحها الفصل 80 من الدستور التونسي، في تجاوز واضح للأحكام التي ينص عليها، في علاقة بالبرلمان والحكومة، حيث قرر تجميد الأول وأقال رئيس الثانية هشام المشيشي.
والحال أنّ الفصل 80 من الدستور ينص على الإبقاء على البرلمان في حالة انعقاد دائم وعلى عدم توجيه لائحة لوم للحكومة، كما ينص على أنه "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب".
وفي غياب المحكمة الدستورية، التي لم يطلب سعيد استشارتها شكلاً، لعدم وجودها أصلاً، فإن التونسيين أمام سيناريو مجهول، رغم محاولات الطمأنة التي بثها سعيد مساء الإثنين 26 يوليو/تموز الجاري.
حين خرجت وثيقة موقع ميدل إيست آي، وأعلنت عن وثيقة لانقلاب دستوري محتمل، تفاجأ البعض وكذبها البعض الآخر باعتبارها لا دستورية، فهل الدستور مرجع أساسي لسعيد حقاً؟
يقول الرئيس الأستاذ، صاحب الصلاحيات ومالك السلطات، حالياً، إنه لم يخرج عن الدستور وإنما اتخذ القرارات من صلب النص، ودعا معارضيه ومن اعتبر الأمر انقلاباً على الشرعية إلى العودة للدراسة في الصف الأول.
لكن إجماع أغلب أساتذة القانون الدستوري على أنّ ما أتى به مخالف للدستور يجعلنا نشكك في قراءة لا يراها سواه وبطانته، باعتبار أن الأمر خرج من نص دستوري واضح نحو مسار سياسي معقد.
ويبدو أنّ الرئيس التونسي اختار أن يتحمل المسؤولية السياسية بما يؤوله ويفهمه، باعتباره صاحب السلطة التقديرية الأوحد في البلاد. لكن هل السلطة التقديرية المنعزلة قادرة على إخراج البلاد من أزمتها؟
شيفرة قيس
لا يمكن الجزم اليوم بأن قيس سعيد في المسار الصحيح أو أنه فعلاً بصدد تصحيح المسار، الذي ذهب فيه إلى أقصاه، رافضاً أي نية للتحاور بعد أن اعتبر أن الحوار لا وطني قبل أن يبدأ، معبراً عن رفضه له مقابل العودة إلى دستور 1959 وإجراء تعديلات عليه، ومع رفض واسع لمقترحه بغض النظر على الحوار.
والواضح أنه لا حوار مع قيس سعيد دون ضمان تغيير النظام السياسي بالنسبة إليه نحو الرئاسي، وقد عبر عن ذلك بشكل واضح منذ وصوله إلى سدة الحكم، وهو اليوم في مسار جمع فيه مختلف السلطات، النيابة العمومية (القضاء) الحكومة (حتى يقترح رئيساً جديداً لها)، التشريعية (بتعليق العمل به).
أغلب مساندي قرار سعيد يذهبون إلى مباركة قراراته دون شروط ويهللون ويكبرون لصاحب السلطات، وبعضهم يطلب ضمانات حتى لا تسير البلاد نحو ديكتاتورية برعاية أستاذها.
هذه الضمانات طالب بها أيضاً الاتحاد العام التونسي للشغل، وأحزاب سياسية على غرار آفاق تونس ومشروع تونس، لكن هل يلتزم سعيد؟
لا يمكن الوثوق بتقديرات الرئيس وحده، خاصة مع تجديد إعلان حالة الطوارئ في البلاد، التي وعد قبل فوزه بالرئاسة برفعها، كما وعد باحترام الدستور، لكنه اليوم يخرقه بشكل واضح.
الجمعية التونسية للقانون الدستوري أبدت تخوفها في بيان نشرته على صفحتها من احتكار السلطات في يد شخص واحد، وقالت إنّ تعليق عمل البرلمان لا يدخل ضمن التدابير الاستثنائية. كما طلبت من الرئيس مجموعة من التوضيحات حول هذه التدابير، داعية إلى عدم الانحراف بها لتغيير الدستور والنظام السياسي.
كما أكد المجلس الأعلى للقضاء في لقائه، الإثنين، بالرئيس على استقلالية القضاء وضرورة النأي بالسلطة القضائية عن التجاذبات السياسية. في إشارة واضحة إلى رفضه المساس بهذه السلطة أو الاستحواذ عليها.
إن ما يخيف البعض من التونسيين هو طبيعة الرئيس سعيد، الذي لطالما كان مجهولاً بالنسبة لهم ومازال كذلك، مع غياب سياسة اتصالية قادرة في قصر قرطاج على فك شيفرة كلامه.
تخوفات ميدانية
أما التخوفات الميدانية فهي إقحام الجيش التونسي في الصراعات السياسية، خاصة أنّه لا يعرف تاريخياَ بأدوار سياسية، ووجد نفسه اليوم أمام وضع جديد لم يتعود عليه، أفضى إلى منع رئيس مجلس النواب ونائبيه من الدخول إلى مقر البرلمان.
وفق مقربين من سعيد، فإن البيانات الدولية التي صدرت متناسقة مع قرارات الرئيس، خاصة بيان الخارجية الأمريكية الذي دعا إلى الالتزام بمبادئ الديمقراطية، والتي لم تعتبر أن ما حصل انقلاب، وهو ما أشارت إليه ألمانيا أيضاً.
حركة النهضة أول من عارض قرارات سعيد، دعت أتباعها إلى النزول للشارع سلمياً ومساندة الشرعية، لكن بعد أقل من 24 ساعة عادت لتطلب منهم الانسحاب على قلة وجودهم، ويبدو أنّها لا فقط عجزت عن التعبئة بل فقدت موازين القوى، أمام شعب لا يرى فيها سوى أنّها أنهت أحلامهم وخربت البلاد.
في الآن ذاته، جاء قرارها متسقاً مع قرار رئيس الحكومة المقال هشام المشيشي، بتسليم المهام للشخصية التي سيختارها الرئيس، ربما اختارت الحركة التهدئة وعدم التصعيد بانتظار ما ستفضي إليه الأيام القادمة. موقف مرفوق بحذر شديد، أمام قرارات غير منتظرة قد تصدر من الرئيس في شكل مراسيم.
ويبقى سعيد اليوم منعزلاً بسلطاته، منفرداً بالحكم، أمام مجهول لا يعرف التونسيون مآلاته، التي لن تبدو سهلة، خاصة مع التضييق على حرية الإعلام، ومحاولة تكميم الأفواه.
شرعية سعيد، إن لم تمارس ديمقراطياً وتحاسب ديمقراطياً، فستكون نقمة على الشعب وانقلاباً حقيقياً على إرادته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.