ثمة اختلاف كبير بين النخب السياسية في تونس على أن قرارات الرئيس قيس سعيد خرجت عن إطار نص الدستور وروحه، وأن التكييف القانوني والدستوري لما أقدم عليه، هو انقلاب على الدستور وعلى المؤسسات، وإنهاء لتجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، وإجهاض آخر تجربة من تجارب الربيع العربي.
حزب الشعب ربما هو الحزب الوحيد الذي رحب بما حصل، إضافة إلى عائلة عبو التي تكنّ عداءً كبيراً لحركة النهضة التونسية.
المجتمع السياسي كله تقريباً يسير في اتجاه رفض الانقلاب، لاسيما الأحزاب الكبيرة، مثل النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة والقطب الديمقراطي الاجتماعي وحزب العمال والحزب الشعبي الجمهوري والتكتل وآفاق تونس، أي أن الطيف الأيديولوجي كله اجتمع على رفض قرارات الرئيس قيس سعيد، الإسلاميون، والديمقراطيون واليسار وأقصى اليسار.
المركزية النقابية الأبرز، والتي ظلت تصنع السياسة في تونس لعقود طويلة (الاتحاد التونسي للشغل) أصدر بلاغاً غامضاً يعكس الخلاف بين أمينه العام السيد نور الدين الطبوبي وبعض أعضاء المكتب التنفيذي، فكان في الجوهر مسانداً للرئيس وفي الظاهر مشترطاً التقيد بالشرعية والضمانات الدستورية، والمنظمة الحقوقية الأكثر فاعلية في تونس (رابطة حقوق الإنسان) هي الأخرى تحمل موقف الرفض نفسه.
لكن، مع هذا الزخم المعارض، ثمة ثلاثة تحديات تواجه حركة استعادة الشرعية في تونس، أولها أن المزاج الشعبي تم تثويره ضد المؤسسات، وتم صناعة رأي عام غاضب ضد المؤسسات الدستورية وضد التجربة الديمقراطية، حتى أصبحت المقتضيات الدستورية في المزاج الشعبي العام مجرد شكليات لا تعني شيئاً أمام الرغبة العارمة في إنهاء التجربة الديمقراطية، والثقة التامة بإمكان أن يشكّل الرئيس قيس سعيّد المنقذ من الظرفية الاقتصادية والاجتماعية والصحية المزرية التي تعاني منها تونس. ثانيها المزاج الإعلامي، الذي يساير المزاج الشعبي المصنوع، ويدافع عن قرارات الرئيس، ويساهم في خلق رأي عام يتهم المجتمع السياسي بكل أطيافه بصناعة الأزمة، ويرى أن الحل في تطهير المجتمع التونسي من هؤلاء السياسيين بل والانتقام منهم، عبر إعمال مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية. والثالث، وهو ما يرتبط بموقف المؤسسة الأمنية والعسكرية، والتي تشير المؤشرات الأولى إلى أنها نزلت لتنفيذ قرارات الرئيس، ومنعت أي محاولة لفتح مجلس النواب في وجه رئيسه وأعضائه، وسط أخبار غير مؤكدة عن مصير مجهول لرئيس الحكومة.
ثمة حركية سياسية كبيرة اليوم من أجل تعبئة الشارع من أجل مقاومة تدابير الرئيس، وثمة تسابق جدي من أجل كسب المبادرة أو منع الآخر من تحقيق مكسب وتقدم على الأرض، فالنهضة سابقت الدعوة إلى النزول للشارع من أجل حماية مكتسبات الثورة والتجربة الديمقراطية، والرئيس استبق الكل بالحديث عن إرادة ما لاستعمال السلاح ضد الدولة ووجود قرار تم أخذه يجيز للقوات المسلحة وقوات الأمن إطلاق الرصاص بكثافة عليهم. وبقية المجتمع السياسي يسعى للتكتل وإصدار مواقف مشتركة رافضة لقرارات الرئيس.
حتى الساعة تم تباطؤ كبير في إصدار المواقف الدولية، فباستثناء تركيا وليبيا اللتين أعلنتا بشكل رسمي رفضها الانقلاب على الشرعية، يسود هناك صمت مطبق من طرف المجتمع الدولي، في حين، تستعد الجزائر التي تستشعر خط التحول في تونس على مصالحها الحيوية، لبعث وزير خارجيتها لتونس لبحث الموقف، خاصة وأن خط الدعم الأول للانقلاب في تونس تم بإسناد إماراتي، وهو نفس الإسناد الذي تقدمه الإمارات للجنرال حفتر الذي يهدد المصالح الحيوية للجزائر من الحدود التونسية.
الديناميات المتقابلة بين الطرفين المتصارعين، الذي ينسب الأزمة للمجتمع السياسي، ويريد تحويل السلطة من المؤسسات التي صنعتها تجربة الربيع الديمقراطي إلى الرئيس، والذي ينسب الأزمة إلى سلوك الرئيس وطبيعة علاقاته البينية المتوترة مع المؤسسة التشريعية والمؤسسة الحكومية، هذه الديناميات تضع أمامها سيناريوهين اثنين: السيناريو المصري المنقلب على الديمقراطية، والسيناريو التركي الذي أفشل الانقلاب، مع ترقب وانتظار للمبادرات التي سيقدم عليها كل طرف على حدة.
الرئيس يسارع الزمن من أجل اتخاذ إجراءات فورية لتقوية سلطته ومنع المجتمع السياسي من التحرك لاستعادة المؤسسات، وذلك بالاستقواء بالجيش والمؤسسات الأمنية وإسناد من الإعلام واستثمار في المزاج الشعبي الحانق على نتائج التجربة الديمقراطية، بينما تتجه القوى السياسية إلى خلق حالة مقاومة شعبية واسعة، تقنع المؤسسة العسكرية والأمنية إلى الرجوع إلى مقتضيات الدستور وفك النزاع وإدارته داخل سقفه لا بالاستقواء بها.
السيناريو المصري ممكن، لكن ما يجعله صعباً، أن جزءاً كبيراً من المجتمع السياسي يقاوم إجراءات الرئيس مع اختلافه مع النهضة وتجربتها في الحكم، كما أن المؤسسة العسكرية والأمنية ليست بالصلابة التي عليها المؤسسة العسكرية والأمنية المصرية، فهذه المؤسسة في أي وقت يمكن أن تميل كفتها لمن ترجحت كفته في الشارع، كما أن الجوار الإقليمي يمانع التحول في تونس، سواء منه الجزائري الذي يبدو خارج السياق، ولم يحط علماً بالتحولات التي يمكن أن تعرفها تونس، أو الجوار الليبي الذي يقاوم بقوة هذا التحول ويعتبره مُضراً بالمصالح الحيوية لليبيا واستقرارها وبحثها عن استعادة الحياة المؤسسية بها.
السيناريو التركي ممكن، لكنه يتوقف على القدرة على نسج تحالفات واسعة تقوم على تصور مستقبل سياسي تقدم فيه النهضة تنازلات مهمة من أجل تقوية مناعة النسيج المقاوم لقرارات الرئيس، كما يتوقف على استباق الموقف الدولي، بتعبئة شعبية عارمة، تكون قادرة على إقناع المؤسسة العسكرية والأمنية بالرجوع إلى نص الدستور وتحكيم مقتضياته.
البعض يعتقد أن السيناريو المصري سيكون هو الراجح، وأن الرئيس قيس سعيد لم يقدم على هذه الخطوة حتى ضمن الإسناد الخارجي ودعم المؤسسة العسكرية والأمنية (تحليل الرئيس السابق المرزوقي) لكن تحديات هذا السيناريو (ممانعة طيف واسع من المجتمع السياسي، ممانعة الجوار الإقليمي، هشاشة المؤسسة الأمنية والعسكرية) تجعل الحسم للدينامية المجتمعية، ومدى قدرة هذا الطرف أو ذاك على التحكم في الشارع وإظهار قدرة في الاتجاه بهذا السيناريو أو ذاك لمداه.
إلى الآن لا يظهر من سلوك المؤسسة العسكرية والأمنية أي انحياز مطلق لهذا السيناريو أو ذاك، وإن كانت تنفذ القرارات الرئاسية، لكن، في كل التجارب، تأخذ هذه المؤسسة وقتها، وتراقب الشارع، وترتب بعدها الموقف بحسب تقديرها للكفة الراجحة، إذ ما يحدد موقفها دائماً هو الانحياز للاستقرار والأمن أكثر من خدمة سيناريو مكلف قد يعرض مستقبل البلد للفوضى والخطر.
الأيام المقبلة إن لم تكن الساعات القليلة القادمة، ستظهر مزيداً من المؤشرات التي تحدد أي السيناريوهين سيكون الأقدر على التحقق، السيناريو المصري أم السيناريو التركي، وإن كانت التجارب السابقة في تونس أفضت إلى إفشال محاولات إجهاض التجربة الديمقراطية، واتجهت نحو النزول عند صيغة الحد الأدنى من الوفاق التي تقدم فيها حركة النهضة تنازلات مهمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.