يقال إن البلاء يثقف الإنسان، بمعنى أنه يُنْحِته و يبَرّيه حتى يصل إلى جوهر الإنسان فيه، فينقّيه من الأكراد والدنس والقشور وكل الزوائد عديمة القيمة، ومازال العبد يُبتلى حتى يلمس في نفسه النقاء المحض وبراء النفس.
والبلاء -عافاكم الله- يربّي في الإنسان الصلابة وطهر النفس ومتانة اللب، ناهيك عن الصدق والإخلاص.. فما بالُكم بشعب بأكمله تجرع مرارة البلاء جرعة وراء الجرعة جيلاً وراء جيل.. هم المؤكد أنهم ليسوا مثلنا.
يعيشون الحياة ويتعايشون مع الموت. يمسك الإنسان حد الحياة وحد الموت معاً بكلتا يديه وهو ضاحك بسّام. وهكذا عندما اشتدّ وطِيس الحرب كما شهدنا في المعركة الأخير. لا شيء يشبه السائد وما ألفته العقول. الجميع يضحك، متآزرين متكاتفين يداً بيد، وذاك هو والله عين الرضا واليقين باللّه.
باذلين الدماء والأرواح متجلّدين لشنع البلاء ولظى جهنّم في سبيل الظّفر بأرضهم.. وكلما لفحتهم النار فيها ازدادوا حبّاً لها.
نعم لقد سلبهم الله سبحانه وتعالى أرضهم لفترة ما يعلمها إلاّ هو، ولكنه وهبهم مقابل ذلك الكثير.. الحقيقة أنه سبحانه قد منحهم أشياء لم يرزقها لمن هم آمنون مطمئنون في ديارهم. وهناك أسمى شرف وأبهى صورة يظهر فيها الإنسان، هناك منشؤه ومنبعه بل وهناك موطنه، هناك يكتمل في الصورة التي أرادها الله كما اكتمل الأنبياء من قبل.
هنيئاً لهم ما اكتسبوه مقابل ما فقدوه، هنيئاً لهم بحريتهم التي حقيقة تجاوزت كل حد وكل وصف، وأصبحوا هم أنفسهم وطناً، وطن الحرية، وطن المقاومة، وطن الجهاد، وطن الشرف، وطن الحق، وطن الصبر ووطن المجد. فصاروا قِبلة كل ذلك كما كان بيت المقدس أول قبلة للمسلمين، كل ذلك هناك في شرق بلاد العرب تقريباً في أوسطها يقع كل ذلك.
هم استثناء من كبيرهم إلى صغيرهم يضحكون، أحياءً وأمواتاً في وجه الموت. حقاً إنه لشيء عجيب وفي غاية من العجب، لقد رأينا موتى ذلك الشعب الأعزل يضحكون ساخرين من العدو. ويا لها من صور قد انتشرت. نعم إنها انطلاقة جنونية حيث اللاحدود للإنسانية حيث التمست روحهم جوهر الوجود الحر.
لقد جعل الله عزّ و جلّ هذا الشعب.. أو عفواً لقد سخر الله سبحانه وتعالى هذا الشعب كي يفكرنا ويعلمنا في كل محنة أن هناك مبادئ نعيش لأجلها ولا ينبغي للمرء أن يحيا حياة فارغة خاوية في جفاء من كل قيمة أو مبدأ هاوية لكسب المال والأكل والشرب والترفيه.
هكذا يحيّر ويثوِّر الله سبحانه وتعالى في أنفسنا من خلال هذا الشعب الأبيّ البطل وفي أيام غابت فيها حرارة الألباب ووخْز الضمائر.. مفهوم المبدأ.. وما أحوجنا إلى المبدأ في أيامنا هذه وقد صار كطيف أشباح سكنت بيوت مهجورة وصوت ضمائر كطنين الذباب أو دوي النحل.. ولا صوت لمنطق أو رأي سداد وعمي فيه الإيمان وتضاءلت العقيدة وخشية الله بالغيب وحتى الإنسانية نفسها.
ولذلك فإن ذاك الشعب أبداً لم يكن قَدَر نفسه فحسب بل قَدَر الإنسانية جمعاء هو صورة نتأمّل من خلالها أنفسنا.
كما أني لا أراه إلا شعباً مختاراً مصطفى كلّفه الله تعالى مهمّة بطولية صعبة. نعم، لقد قال الصهاينة: "نحن شعب الله المختار". ألا هُمْ الفلسطينيون الكنعانيّون هُمْ شعب الله المختار. عدى ذلك زور وزيف. وهنا يجب أن يستقر الإنسان مؤمناً مَدِيناً لله متديّناً له مقاوماً. أن جعل فلسطين عقيدة. فما أعجب هذا الدين حينما ضمَّ وأشمل قُدسِّية الأرض بالعقيدة.
هذا الدرس الأخلاقي القيمي يجسّده مشهد الدفاع عن الوطن.
أحسست في الآونة الأخيرة بأنّ قضية القدس قد خبت ريحها وانطفأت شعلتها وهمد وهجها الذي كان يصفع القلوب منذ فترة ليست ببعيدة، وها هي تستعيد مكانها المعتاد في درج الفلكلور ولكنّه سيفتح في وقت لاحق على دماء وخراب واضطهاد. لذلك لتبقى القضيّة كالهيكل القائم الصامد في أذهاننا، مهما أخذتنا الأيّام وانصرفنا لمشاغلنا وحياتنا.. لعل فتيلة التحرير تشتعل في جيلنا هذا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.