لم تكد دموع الثكالى جراء فاجعة مستشفى ابن الخطيب في بغداد أن تجف، ليس فقط على من فقدنهم، بل على عدم محاسبة المتسببين في إفقادهن الأحباب. ولقد ضربت عديد المقالات جرس الإنذار لكمِّ الفساد الذي يشهده العراق في قطاعات عدة وعلى رأسها قطاع الصحة، الذي يسبح في بحر من الفساد، وفاض مع أزمة كورونا التي يشهدها العالم ويتاجر بها البعض ويثرى في العراق.
تحدثت من قبل عن الفساد والإهمال الذي يضرب جنبات القطاع الصحي، والذي تجسّد في حادثة مستشفى ابن الخطيب، وأنتج ما يزيد على المئة ضحية فقدوا حياتهم جراء ذلك الإهمال. سقنا مقدمات الكارثة والضالعين فيها واصفين كيف يعيش العراقيون في دولة مختطفة من قبل عديد الميليشيات.
ومع تكرار الفواجع بين الفينة والأخرى، فإن الحديث عن أن مرد كل تلك الفواجع إلى التماس الكهربائي أو الاستخدام الخاطئ للأكسجين لم يعد من خوارق المنطق ومن موجبات التسفيه. كما أن مرد تلك الفواجع التي تذهب بأرواح مئات الأبرياء إلى الفساد الحكومي الذي تقول الحكومة عنه ظاهرة طبيعية في كل بلاد المعمورة، مع العلم أن العراق يقبع في المرتبة الاثنتين والستين بعد المئة في مؤشر الشفافية العالمية. فأي فساد يتحدث عنه القابعون في المنطقة الخضراء، لم يعد مقبولاً، أو أن تعزو الحكومة إزهاق أرواح الأبرياء إلى الفساد وهي تقدم برنامجها لتحظى بالثقة وفي صدارته محاربة الفساد، ورغم توالي الحكومات منذ احتلال العراق في 2003 ووعودهم بمحاربة الفساد تزايد الفساد طردياً مع الوعود.
وكما أنه لم يعد مقبولاً تبريرات الحوادث من التماس الكهربائي وسوء استخدام الموارد إلى الفساد الحكومي، فإنه غير مقبول محاسبة أصغر موظف في الدائرة، وإحالته للتحقيق بعد تشكيل لجنة تحقيقية تنتهي إلى اللاشيء في أكثر الأحوال.
حديث البعض عن أن حرق المستشفيات يأتي في إطار عمل آلة الموت التي تحصد أرواح العراقيين، وبعد حادثة مستشفى الحسين التعليمي في ذي قار بدأت تتعالى الأصوات بأن هذه الحرائق متعمدة كصورة جديدة من صور الانتقام من الشارع "الناصري"، الذي انتفض منذ اللحظات الأولى مشاركاً في ثورة تشرين، وقدم من التضحيات ولم يبخل من أجل هزيمة الفساد الذي لم تهزمه الحكومات التي نكثت باليمين وخالفت الوعود.
لقد قال شعب الناصرية للحكومة والأحزاب تنحوا جانباً فنحن للفساد.. مساكين، مساكين لأنهم لم يعرفوا أن الفساد هو من أتى بتلك الحكومات، لم يدركوا أن هناك من يحرك خيوط اللعب من الجوار، لم يقدروا أن اللعبة أكبر من قائمقام أو محافظ أو نائب برلمان.
إن الأصوات التي بدأت تعلو صارخة بأن ما حدث يأتي في إطار انتقام المتغطرس الذي يريد أن يؤدب من ثار في وجهه، ويلقنه درسا يردعه ويعيده إلى حظيرة الطاعة والخنوع، إنما هي أصوات بدأت في فهم قواعد اللعبة وأدواتها، وطريقة تفكير اللاعبين، فلا ضير أن يقتل العشرات من أجل إسكات الآلاف.
وإذا كان هذا هو هدف "الصغير"، فإن من يحركه من الخلف يريد ما هو أبعد من ذلك. فإذا كان ثأر هؤلاء في تأديب من ثار في وجهه، فإن من يحركهم لديه ثأر أكبر. فلقد كانت حرباً في الماضي، لم يستطع فيها تحقيق أهدافه، ومن ثم فإن خطة إبادة الشعب العراقي تمضي قدماً بمباركة المستَخدَمين.
ولعل حادثتي ابن الخطيب ثم الحسين كاشفتان، فقد كشفت الولاءات والكل أصبح يعرف موقعه في مربع العمليات، كما تعرى حديث الطائفة، وأصبح من مغيبات العقول. ولما كانت العقول قد تنبهت فإن حقن الطائفة لم تعد تخدر الشعب، فالحسين الذي ثار لحق رآه يبكي اليوم العراق في ضحاياه، فلا يجوز أن يتحدث أحدهم باسم الحسين، فالكل في الخضراء إما فاعل أو شريك أو متواطئ، والضحية تشكو ربها تلك الطغمة.
تتباهى الدول بقوتها البشرية، سواء الإنتاجية أو حتى الاستهلاكية، وتدعو الحكومات شعوبها لزيادة النسل ليس فقط لضمان البقاء، ولكن لاعتبارات سياسية واقتصادية. فالشعوب في علم السياسة ورقة ضغط بيد الحكومات، لكن حكومات العراق ما بعد الاحتلال قدمت نموذجاً فريداً في منهجية إبادة شعبها، بدأت بالكفاءات سواء بالاغتيال أو التهجير بعد التضييق، ثم شملت أولوية العملية المثقفين وأصحاب الرأي، لتذهب إلى المرحلة الأخطر، مرحلة الإبادة الجماعية.
ظن البعض أن تلك الميليشيات المحصنة بفتوى الجهاد الكفائي تعمل على إبادة الآخر، لتظهر الحقيقة في تشرين الأول/أكتوبر 2020 عندما فتحت تلك الميليشيات نيران أسلحتها على حاضنتها الشعبية، وبين القتل المباشر بالزي الرسمي للميليشيات وبين قبعاتهم الزرق شارك الكل في قتل العراقيين، ولم يعرف ذلك العنصر الذي قتل أخاه الثائر، بأنه يفقد الحماية الحقيقية من رؤوس المجاميع أصحاب جوازات السفر الإيرانية.
الغضب الشعبي المتصاعد يؤجج النار في صدور العراقيين المخدوعين بوهم وجوب الطاعة والخضوع لأوامر السادة المعممين، كما يؤجج النار في صدور غير المؤدلجين من العراقيين الذين وقفوا على الحياد وقت أن كان شباب تشرين يقتلون برصاص دفعوا هم ثمنه. وبالنتيجة تزيد النار في قلوب مئات الأسر التي فقدت عزيزاً لها في التظاهرات قبل المستشفيات، والنتيجة أن نار ثورة تشرين ستأكل كل فاسد، وستستعيد العراق العربي بدوره الحضاري بين أمته وفي المنطقة والعالم أجمع. فهذا البلد الكبير يستحق الحرية، ويستطيع إن قام أبناؤه بما يلزم، وما يلزم قادم أكاد أراه.
ألا تعد هذه الفواجع وما ينتج عنها من خسائر بشرية كبيرة نوعاً من الإرهاب الحكومي الذي يتطلب التصدي له؟
إذاً، من المؤهل بالقيام بالتصدي لإرهاب الدولة المنظمة ضد الشعب العراقي المسالم؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.