تمثل النصوص الأدبية امتداداً لتجارب الحياة والمحطات التي اختبرها الكاتب ومشاهداته لتحولات الواقع، كما ينعكس البعد النفسي لشخصية الكاتب في أسلوبه التعبيري والمواضيع التي يتناولها في أعماله الإبداعية. قد يكون الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي مثالاً واضحاً حول التواصل القائم بين حياة المبدع وأثره. كان يستلهمُ صاحب "الشيخ والبحر" أفكاره من معترك مغامراته الحياتية. من المعلوم أنَّ همنغواي قد انخرط في التجارب المتعددة، ولم يكن معتكفاً على الكتابة فحسب، بل حارب في جبهات القتال، وصاحب الصيادين، وارتدى سترة المراسل الحربي، ناهيك عن مطارحاته الغرامية وهو يقولُ "إن أي تجربة يمرُّ بها الإنسان في الحرب لا تعادل تجربة واحدة مع امرأة جميلة"، لافتاً في أحد حواراته إلى أنَّ أفضل الكتابة يأتي وأنت في حالة الحب.
كان همنغواي شغوفاً بمتابعة سباقات الخيل ومصارعة الثيران واقتناء الأسلحة، عجن همنغواي نصوصه بدماء الواقع، وقد أنجز كتابة بعض أعماله في المقاهي والأماكن العامة، وإذا كان همنغواي قد نقلَ تفاصيل حياته إلى طيات مؤلفاته الروائية والقصصية فماذا يتوقعُ القارئ مما تضمه رواية "وداعا همنغواي" للكاتب الكوبي ليوناردو بادورا.
ربما يتبادرُ للذهن أنَّ وجود همنغواي في العنوان ليس أكثر من مجرد استهلاك لقيمة مؤلف "الشيخ والبحر"، ومن الواضح أنَّ صيغة العنوان لا تخلو من الوظيفة الإحالية، وتذكر بأشهر أعمال همنغواي "وداعاً للسلاح"، وهذا يعني تشابك النص مع عالم همنغواي على عدة مستويات، فالأمر لا يقتصرُ على مسلك واحد من حياة المؤلف، لكن ما يهمُّ في هذا السياق هو مخالفة المحتويات لأفق انتظار القارئ، وعدم الاستجابة لسقف توقعاته، وذلك يتم من خلال آلية شكل الخطاب الروائي والمضمون الذي يقومُ على استعادة إرنست همنغواي، بوصفه بطلاً روائياً يهمينُ على المساحة التي حددها ليوناردو بادورا.
تلويحة
المكون الأساسي في بناء الرواية هو شخصية إرنست همنغواي، الذي يكونُ محركاً لبنادول السرد ولا يغيبُ على امتداد الرقعة التي تستضيفُ عدة شخصيات، منها "كونده"، فهو يستعيدُ ذكرى تلويحة همنغواي، فبينما كان يرافق كونده جده إلى بلدة كوخيمار، بعدما تمتع بالفرجة على نزالات الديكة يقعُ نظره على رجل يعتمرُ طاقية، واضعاً على عينيه نظارات خضراء الزجاج ولا يكفُّ الطفلُ عن التطلع إليه، ويخبرُ الجدُ حفيدَه بأنَّ هذا الرجل هو إرنست همنغواي، وعندما يصعدُ الأخير إلى السيارة أرسل بتلويحة نحو الشاطئ، فقد تخيلَ الطفلُ أنه مقصود بهذه التحية، ويجري كثير من الماء تحت جسر الزمن ويتركُ عمله بالشرطة حين تطوف حيثيات اللقاء الأول بهمنغواي في ذاكرة كونده من جديد.
وما إن يبدأ ماريو كونده بمتابعة أدبائه المفضلين حتى يتأكد أنَّ آخر ظهور لهمنغواي في كوخيمار كان في اللحظة التي رآه وتلقفَ تلويحته الوداعية، لكن حضور همنغواي لا يقتصر على هذا اللقاء الوامض، إنما يكونُ لصاحب "باريس وليمة دائمة" تأثير أعمق في حياة ماريو. ويتبدلُ موقف الشرطي السابق من همنغواي عندما يكتشف بعض صفاته وسلوكياته الشخصية، وبذلك تحولَت أيقونته في الأدب إلى كائن صلف يتنكرُ لفضائل أصدقائه من شيرود أندرسون إلى فيتزجيرالد، غير أن ما يثير غضب كونده أكثر هو موقف همنغواي من صديقه جون دوس باسوس، إذ قسا على الأخير لأنَّه طالب بفتح التحقيق في ملابسات مقتل أحد الأصدقاء أثناء الحرب الإسبانية، وما كان من همنغواي إلا أن وصم روبلس بالخيانة، معلناً أنه نال عقابه بالإعدام لأنَّه كان جاسوساً.
وهذا الحدث قد دقّ الإسفين بين المبدعين، كما انصرف باسوس عن التيار اليساري بوجهه الستاليني. ولم يكن روبلس هو ضحية وحيدة للسياسة الاقصائية، بل لقي أندريونين المصير نفسه، زيادة على ما سبق ذكره فإنَّ بادورا يهمهُ تناول خيارات الكتابة الروائية لدى همنغواي ونمط التواصل بين معاينته الواقعية ونصوصه الإبداعية.
إذن يقعُ المتلقي على المنحى النقدي ضمن السرد الروائي. وذلك يتم من خلال الاستبطان لشخصية إرنست همنغواي تارةً، واسترسال الراوي كلي العلم تارة أخرى في إيراد المعلومات بشأنِ الشخصية المحورية. يذكر أنَّ صوت الراوي يتداخل مع كلام المحقق كوندا، أياً يكن الأمر فإنَّ خيال همنغواي فقيرُ حسب الرأي المذكور في الرواية، وإن مدماك أدبه هو ما عاشه وتعلمه من الحياة، وهذا مرّد طغيان الطابع الواقعي في أعماله.
وتتواردُ في هذا السياق عناوين نصوصه الإبداعية والحدث أو التجربة التي كانت نواة لانطلاقتها، وأجّج رفض همنغواي الانضمام إلى الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب الخصومة بينه وبين بعض الأدباء، منهم فولكنر، الذي هاجمه بقسوة، واصفاً إياه بالجبان، هنا يتدخلُ صوتُ مؤلف "لمن تقرع الأجراس" متسائلاً بصيغة استنكارية: هل يوصفُ بالجبن مَن حرّر اللغة الأمريكية من كل تخفيف وتلطيف، وتجرأ على الكلام عن الخصيتين. على هذا المنوال يُسمعُ صوت همنغواي مدافعاً عن نفسه من خلال التذكير بملاحمه الحياتية، كما تتواردُ ضمن الرواية تلميحات بشأن صداقات الكاتب وآرائه حول الكتابة، وما يفهمُ من كل ذلك أنَّ همنغواي كان يؤثر العزلة مواظباً على الكتابة يومياً، ويتوقف حيثُ يتمكنُ من الاستئناف في اليوم التالي دون الترقب. وقد عانى همنغواي من عسر الكتابة، ولاحقه شبح رواية "موت في الظهيرة"، إذ أراد مشاهدة مصارعة الثيران، لعله بذلك يستمدُّ زخماً لاكتمال المشروع.
الجثة
المسوغ الأساسي لاستعادة همنغواي في السردية الروائية ليس فرادة شخصيته وطاقاته الإبداعية الخلّاقة فحسب، بل يتطلبُ بناءُ العمل الروائي أكثر من وجود شخصية مركبة، وقد يفشلُ الروائي في إقناع المتلقي بمتابعة محتويات منجزه إذا راهنَ على توظيف المعلومات المتوفرة بشأنِ شخصية معينة، دون تحديد ما يشحنُ النص بمواقف درامية ويصعدُ من التوتر في حلقاته المتتابعة. طبعاً المدخل إلى رواية "وداعا همنغواي" هو اكتشاف جثةٍ داخل حديقة بيت بابا همنغواي في هافانا، الأمر الذي يحدو بكونده لارتداء زي المحقق من جديد. ويتعهدُ إليه صديقهُ الملازم مانويل بلاثيوس بفك أسرار الجثة التي اخترقتها رصاصتان قدّر الخبراءُ بأن الشخص الذي جرفت العاصفة العاتية التراب المتراكم عليه قد قُتل بين سنتي (1957-1958)، هذا التطور يتفحُ باب بيت همنغواي على مصراعيه للمحقق الذي قد انصرف إلى بيع الكتب قبل أن تحلَ الجثة على المسرح.
هناك يعاينُ مقتنيات همنغواي، ويبدأ بتخيل السيناريو المحتمل لمقتل شخصٍ قد دفنَ في ميدان مبارزة الديكة. والحال هذه فمن الطبيعي أن يأخذ السردُ منحى بوليسياً، ويقومُ كونده بالتحقيق والبحث عن الأشخاص الذين قد عاصروا همنغواي، هنا نكونُ أمام صورة أخرى لمؤلف "لا تزال الشمس تشرق"، فهو قد طابت له رفقة الصيادين والبسطاء والمهربين. ما كان يهمه المال، ويجودُ بما يربحه على الأصدقاء، وعندما تلقى شيكاً وميدالية نوبل قد سدد ديونه وأرسل بعض المال إلى عزرا باوند، وسلم الميدالية إلى صحفي كوبي ليضعه في مصلى معجزات عذراء المحبة النحاسية.
ما يجدرُ بالذكر هنا أن الرواية تعتمدُ في أجزائها الكثيرة على تقنية الاستقصاء واستجواب أصدقاء همنغواي، منهم روبيرتو وتوريبيو ألتوثار، الذي ترك له بابا همنغواي ثروته من ديوك المصارعة، لكن من يكون دوره بمثابة مفتاح لفك العقدة كاليستو يختفي من المشهد، وذلك لأنَّ همنغواي يهربهُ قبل انتحاره.
عليه فإن معطيات التحقيق قد أبانت أن الرجل كان عميلاً لمكتب التحقيقات الفيدرالية، إذ يتم العثورُ على الشارة التي تؤكدُ ذلك، والمقطعُ الذي يدورُ فيه الحوار بين عميل FBI وهمنغواي كما يتخيلهُ بادورا يفيضُ بالتشويق.
تكمنُ فرادة هذه الرواية في تنظيمها بفنية عالية، وحسن تموقع الراوي وتدخلاته المحسوبة في فضاء الرواية، كما أنَّ الصيغة المنولوجية في المفاصل التي يتسنطقُ فيها همنغواي تكسر الجليد بين المتلقي وسرائر شخصية لم تكن حياتها ولا انسحابها من المسرح عادياً. تحيلك افتتاحية هذه الرواية إلى ما يسردهُ غابريل غارسيا ماركيز في مقاله، الذي نشر بعنوان "همنغواي الذي يخصني"، عن لقائه العابر والوحيد بالمعلم في باريس، إذ يكتفي بأن يضع يده حول فمه مكوراً ويصرخ "مايسترو"، وما لبث همنغواي إلا أن يعرف أنَّه مقصود بالنداء، لذا يستديرُ صائحاً بالإسبانية "سلام أيها الصديق".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.