نجحت حشود الأولتراس المصرية في نقل نفسها مِن مُدرجات الاستادات الكرويّة إلى مختلف الميادين الشارعيّة، وذلك منذ اندلاع احتجاجات ثورة يناير 2011، لتتحول شيئاً فشيئاً إلى جسدٍ احتجاجيٍّ كبير أمام السلطة المصرية. مثّل هذا الجسد دوراً قوياً في فاعليّة الثورة، وعموداً فقرياً في موجات ثورية تلتها، إلى أن بدأ النظام المصري في فترتي المجلس العسكري، بقيادة المشير طنطاوي، منذ فبراير/شباط 2011 إلى يونيو/حزيران 2012، وبعد ذلك في يوليو/تموز 2013، في عقاب هذا الجسد، وتفكيكّه والقضاء عليه حركياً وتنظيميّاً. فما هي العقبات التي سببها الأولتراس، وكيف عاقبته السلطة في مصر؟ مع الإشارة أيضاً لتجربة الأولتراس السياسيّ الذي لقي نفس مصير الرياضي.
الأولتراس والجسد
روابط مشجعي الأندية في مصر، أو ما يطلق عليها اسم "أولتراس – ULTRAS"، وأولتراس كلمة لاتينيّة، تضم كلّاً من سمات الشجاعة والحماسة المفرطة والإخلاص، أُسست بدايةً من عام 2007، في خضم النشاط الكروي في مصر، ولمعان نجم المنتخب الوطني بتحقيقه الفوز بكأس الأمم الإفريقية عام 2006. كانت البداية عند تأسيس رابطة مشجعي نادي الزمالك "وايت نايتس – WHITE NIGHTS" في مارس/آذار من عام 2007، ومن ثمَّ تلتها رابطة مشجعي النادي الأهلي "أولتراس أهلاوي – UA"، في أبريل/نيسان من نفس العام، لتنشأ بعد ذلك عدة روابط تشجيعية منظمة لنوادٍ أُخرى، مثل المصري البورسعيدي والإسماعيلي والاتحاد السكندري وغيرها.
استقطبت رابطتا الزمالك والأهلي عشرات الآلاف من الأعضاء من القاهرة وكلّ المحافظات الأُخرى، وذلك نظراً لملايين الشباب الباحثين عن مجموعات تشجيعية منظمة تهتف بإخلاص باسم النادي، وتتضامن وتعترض على سياسات النادي الخاصة بكرة القدم. أيضاً استطاعت هذه المجموعات كسر الطبقية الفارقة في الاجتماعات المصرية، سواء الثقافية أو التعليمية أو المادية، فغنيّ وفقير، ومتعلم وجاهل، وعامل ودكتور، وغير ذلك، اجتمعوا بجوار بعضهم في مدرجٍ واحد للهتاف للفريق الذي يشجّعونه [1].
ضمّت المجموعات أيديولوجياتٍ وأفكاراً متباينة ومتعددة، من اليساريّ إلى اليمينيّ إلى الإسلامي بتنوعاته، إلى اللامنتمي وغير ذلك. ظلت تلك الانتماءات السياسية والفكرية مُجمّدة النشاط داخل الفعل الحركي التنظيمي للأولتراس، حيث اقتصرت أنشطة المجموعة كلها داخل المدرجات، في التشجيع الحماسيّ في كافة البطولات المحلية والدولية، لكن هذا لم يمنع اشتباك الأولتراس في بعض الجولات والمباريات مع رجال الأمن، بسبب فعاليات التشجيع التي يعتبرها الثاني شغباً وعنفاً، من هتافات وألعاب نارية واعتراضات، ومناوشات بين الجماهير وبعضها وغير ذلك، لكنّه كان اشتباكاً لحظياً.
جاءت ثورة "25 يناير" لتتواجد فيها مجموعات الأولتراس بشكلٍ مستقل، قوى هذا الوجود الماكينة الشبابيّة المدرّبة حركياً على الحشد الجمعي، والتفاعل الوجداني والميداني، الذي يتمثّل في احتجاجات مبدّعة، أيضاً الخزينة العاطفية لبغض رجال الأمن والداخلية التي تكوّنت مسبقاً من مناوشات المُدرجات، ساعدت على تفعيل المقاومة الجمعيّة الشارعيّة لهم، ما أدّى إلى فعاليّة الحراك وقوة المقاومة في بعض الميادين.
من بعد التنحي أكملت المجموعات مسارها الثوري، والكروي بالمدرجات، والشارعي، ذا الطابع السياسي، وشاركت في الأحداث المتتالية اعتراضاً على سياسات المجلس العسكري في الحكم، كان من أهمها أحداث مجلس الوزراء في ديسمبر/كانون الأول من عام 2011، الذي سقط فيها شهيداً ضمن أفراد أولتراس أهلاوي، وأحداث شارع محمد محمود قبلها بشهرٍ واحد، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، الأحداث التي وصفها البعض بأنّها الموجة الثانية من الثورة، حيث استمرت الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الجيش والشرطة لعدة أيام، انتهت بمقتل العشرات من المتظاهرين.
شهدت الاحتجاجات صلابةً من حيث المقاومة، كانت مجموعات الأولتراس برفقة شباب آخرين، ومساندة بعضٍ من العمالة الصغيرة المتواجدة هناك، أو كما يسمّيهم جورج جاكسون البروليتاريا الرثّة المُنضمة حديثاً للصفوف الثوريّة، يبدعون جميعهم في رمي الحجارة والألعاب النارية، ما أدى إلى تشكّل جسد شبابي متكامل، يقاوم السلطة بكل بسالة، ما أدى إلى بدء رسم وتنفيذ خطط العقاب من السلطة في أحداثٍ دموية متتالية [2].
السلطة والعقاب
غضب مُشجعي الأولتراس لموجات العنف التي شهدتها الأحداث الاحتجاجية تجاه المتظاهرين، خاصة في موقعتي شارع محمد محمود ومجلس الوزراء، ما زاد فاعليتها وبياناتها المتكررة بشأن حق الشهداء ومحاسبة القاتلين. بعد غضبة الأولتراس نفذت مجزرة جماعية بحق مشجعي أولتراس أهلاوي يوم 1 فبراير/شباط من عام 2012، في استاد بورسعيد بعد انتهاء مباراة الأهلي والمصري البورسعيدي، راح ضحيتها 72 شهيدا، حيث بعد انتهاء المباراة أُغلقت أبواب الاستاد، وحُبس مشجعو الأهلي بين سيوف وعنف مواطنين بلباسٍ مدنية، وسط صمت ومشاهدة من قِبل رجال الأمن المتواجدين داخل الاستاد.
بقي وجود الأولتراس سواء في الشارع لإحياء الذكريات الثورية أو للمشاركة في أي أعمال احتجاجية، وأخذت المحاكم دورها في محاسبة ومحاكمة المتورطين في مجزرة أحداث بورسعيد، إلى أن جاء يوم 8 فبراير/شباط من عام 2015، وهو يوم مجزرة استاد الدفاع الجوي التي ارتكبتها قوات الأمن المصرية، بحق مشجعي فريق الزمالك، راح ضحيتها 22 مشجعاً، في ظل وجود نظام جديد يترأسه مدير المخابرات العامة في عهد المجلس العسكري عبدالفتاح السيسي، ما أدى إلى اشتعال الغضب داخل الكيانات الشبابية كافة، لاسيما كيانات الأولتراس بسبب فعل العنف المؤدي إلى القتل الممنهج من قِبل السلطة.
كانت المجزرتان عقاباً عنفوياً صادماً لروابط الأولتراس، محاولة من السلطة لهدم وتفكيك هذا الجسد المنظم الجامع لأيديولوجيات بعضها فوق بعض، فضلاً عن وجوده كفاعلٍ سياسي احتجاجي في الشارع من جهة، والنشاط الرياضي "المدرج" من جهة. بالتوازي مع القتل المباشر، قد حظرت السلطة القضائية في مايو/أيار من عام 2015 كافة روابط الأولتراس في مصر، وقامت الأجهزة الأمنية باعتقال كوادر تلك المجموعات.
بعد تلك الإجراءات القمعية، سواء من خلال العنف المباشر المتمثل في القتل والاعتقال أو غير المباشر عن طريق حظر الروابط، ومن ثمّ تلفيق التهم والقضايا لأعضاء المجموعات، بقيت الروابط تحاول إحياء ذكرى شهدائها، عبر البيانات والفاعليات الشارعيّة إن أمكن، فضلاً عن انتقاد سياسات إداراة الأندية أو السلطة، مع صناعة المحتوى الإبداعي الفني المتمثل في رسم الغرافيتي، بث والأغاني والفيديوهات، حتى جاء شهر مايو/أيار من عام 2018، وأعلنت رابطة أولتراس أهلاوي حلَّ نفسها، ليليها بأسبوعين فقط بيان من مشجعي أولتراس وايت نايتس بالحلّ ذاته.
الأولتراس السياسي
على غرار نشأة مجموعات الأولتراس الرياضي عام 2007، نشأت مجموعة أولتراس سياسي عُرفت باسم "أولتراس نهضاوي UN" تأسست في مايو/أيار من عام 2012، لِتُكوّن فريقاً من كلّ محافظة، لدعم حملة مرشح الإخوان المسلمين وقتئذٍ محمد مرسي، حيث تكونت الرابطة من شباب الإخوان، واتخذوا لهم شعاراً واسماً منبثقاً من مشروع النهضة الذي تتبناه جماعة الإخوان. بعد الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013، وزيادة فاعليات الجماعة الاحتجاجية من اعتصامات ومظاهراتٍ في كافة أنحاء الجمهورية، استطاعت المجموعة أن تتبنى مشروعاً منفصلاً من الناحية الإدارية والتنظيمية عن جماعتها الأمَّ، وأصبحت جسداً تنظيمياً مستقلاً ناشئاً، ضمَّ بضعة آلاف من شبابٍ ذوي اتجاهات فكرية مختلفة ومستقلة، أغلبها نشأت في حاضنة محافظة أو إسلامية.
زاد نشاط تلك المجموعة، وأصبحت أول كيان سياسيٍّ يتخذ اسم وهيكل الأولتراس، من حيث الإدارة والتنظيم وطريقة الاحتجاج، ما سبّب قلقاً للسلطة الأمنية، ما استدعاها سريعاً إلى محاربته ككيان مستقل عن جماعة الإخوان، فأصبح الإعلام الرسمي يُفرّق بين احتجاجاته واحتجاجات القوى الأخرى، وبدأ التعامل الأمني يرتكز على أفراد الكيان بشكلٍ مستقل، ومع الضربات المتتالية من الأمن للمجموعة، من اعتقال ومطاردة، ما أدى إلى تفكك الرابطة دون حلّ رسميّ منها، وتوقف نشاطها [3].
نجحت السلطة في مصر عبر استراتيجية النفس الطويل لدى أجهزتها الأمنية، بكل ما تمتلكه من أدوات حداثية تساعدها وتمكّنها عن طريق العنف من القضاء على أي جسدٍ ثوري ناشئ، سواء كان أولتراس رياضياً ذا بعدٍ سياسيّ أو أولتراس سياسيّاً من حيث المبدأ والنشئة، لاسيّما إن كان هذا الجسد كلّ ماكينته البشرية من الشباب المنخرطين في المقاومة الإبداعية التي تتميّز عن غيرها أنّها قابلة لتكون أكثر راديكالية من غيرها، في تعاملها سواء داخل المدرجات أو في الميادين، لذلك كان القضاء عليها وتفكيك جسدها أولويّة لدى النظام لترسيخ سلطته واستقراره في الحكم.
عودة تلك الروابط مرهونٌ بخلق مساحةٍ من قبل السلطة تسمح لها بالعودة من جديد، دون تصنيفها كمنظمات إرهابية يحظرها القانون، فالأولتراس الرياضي قادرٌ على تنظيم نفسه، في حالة عودة الجمهور لحضور الأنشطة الرياضية، وسماح السلطة له بممارسة وجوده ككيان تشجيعي. أما المجموعة السياسيّة فالرهان هنا على السماح لها من قبل السلطة، بالإضافة إلى قدرته على بلورة مشروع ذات طابع منهجي وتنظيمي له رؤى محددة.
الهوامش:
1- زياد عقل، الخضوع والعصيان: الحركات السياسية في سنوات التحول، دار المرايا للإنتاج الثقافي، ط1 القاهرة 2018، ص 130.
2- لوسي ريزوفا، تفكيك الثورة، الثورة المصرية ونهاية التاريخ، دار المرايا للإنتاج الثقافي، ط1 القاهرة 2018، ص 1093- أحمد عبدالحليم، مصر: الأولتراس السياسي، إسلاميون قيد المحاولة، مجلة جدلية، سبتمبر 2020.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.