في السياسة اللبنانية المعقدة والمجهولة المصير، لا يمكن فصل صراعات المنطقة الجارية اليوم عما يحدث أو يمكن حدوثه في الساحة اللبنانية والتي تشهد انهياراً اجتماعياً ومالياً غير مسبوق، معطوفة على أزمة سياسية وحكومية وميثاقية، وآخر هذه الصراعات الإقليمية هي الأزمة الحاصلة مؤخراً بين المملكة العربية السعودية وإمارة أبوظبي على خلفيات سياسية واقتصادية والتي تنذر في نهاية المطاف بفك تحالف متين أو هكذا بدا حينها.
في السنوات الخمس الأخيرة كانت المملكة العربية السعودية تنسحب تدريجياً من لبنان لمجموعة أسباب صرح بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لكل من سعى لإعادة المملكة للمشهد اللبناني المأزوم، كان الأمير الشاب يجيب الوسطاء بمجموعة أسباب تجعل بلاده غائبة عن لبنان.
الأول أن لبنان بات قاعدة للهجوم عليه وعلى أمن واستقرار السعودية عبر مشاركة حزب الله لجماعة الحوثي والذي يستبيح الأجواء والأرض السعودية، يضاف إليه أن الموقف الرسمي اللبناني لم يسلف السعودية ولو حتى بموقف استنكاري للاعتداءات الحاصلة على دول الخليج.
والثاني هو أن الوكيل- أي سعد الحريري- فشل في تقزيم خصومه، لا بل استكان لهم وعقد معهم صفقة أتت بميشال عون حليف حزب الله لسدة الرئاسة؛ أي أن الحريري وبالمحصلة بات أقرب لمحور الممانعة لقربه منهم.
سنياً وعقب التململ السعودي من الحريري والانسحاب المبرمج من دعم الأخير باتت الساحة السنية تشهد فراغاً للمقعد السعودي الفارغ لممثلها الحصري في لبنان؛ لذا فإن هذا الفراغ جعل العديد من الحالمين لملء هذا المركز يتسابقون لتقديم أوراق اعتمادهم لدى الرياض، لكن الرياض كانت حاسمة وغير متشجعة للعودة عبر شخصيات "مجربة" وغير قادرة على انتهاج سلوك جديد في اللعبة اللبنانية.
لذا فإن العديد من هذه الشخصيات كان يحاول اللعب في المسرح الإماراتي والذي كان يسعى لوارثة دور السعودية عبر مجموعة مسارات باتت واضحة: دعم شخصيات سياسية وتمويل حضورها السياسي- وئام وهاب نموذجاً- بالإضافة للمساهمة في تمويل منصات إعلامية لبنانية وسورية من بيروت واستجلاب بهاء الحريري للساحة اللبنانية بعد غياب 16 عاماً لم يسمع به اللبنانيون، تمويل مجموعات سياسية ومنتديات ومؤسسات والحضور في لعبة النخب.
وبعيداً عن أن السعودية لم تبدِ انزعاجاً من هذا الاستنفار الإماراتي في لبنان إلا أنها شعرت بالاستفزاز من احتضان الإمارات مؤخراً للحريري المغضوب عليه سعودياً من أعلى الهرم في القصر الملكي، ولنعد قليلاً إلى الخلف ونتذكر أنه ومنذ خريف 2019 دخلت العلاقة بين الحريري والأمير محمد بن سلمان في مرحلة صعبة. وانتهت مرحلة "العسل" بين الجانبين بعد سنتين على حادثة الاختطاف الشهيرة، والأكيد أن كل محاولات سعد الحريري لدخول القصر الملكي باءت بالفشل، والسعوديون قالوا كلمتهم الشهيرة حينها: "لا نريد السماع بلبنان وآل الحريري ونقطة على السطر".
وبالتوازي كان الحريري يراهن على قربه من ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد وشقيقه مستشار الأمن الوطني طحنون بن زايد للاستفادة من علاقتهما الوطيدة بولي العهد السعودي لإعادة فتح الأبواب السعودية، لكن الحقيقة أن بن سلمان كان صارماً مع كل من فاتحه باستقبال الحريري وفتح صفحة جديدة معه بدءاً من الفرنسيين والإماراتيين والمصريين والروس والأتراك والقطريين، وأن كل ما وافق على تقديمه حينها للوسيط القطري هو السماح للحريري بلقاء وزير الخارجية فيصل بن فرحان؛ الأمر الذي رفضه الحريري وأصر على لقاء ولي العهد؛ ما أدى إلى انزعاج السعوديين وإلغاء فكرة الزيارة.
مؤخراً مُنِي الحريري بنكسة جديدة تضاف إلى نكساته، العلاقة السعودية مع إمارة أبوظبي دخلت في منحدر خطير، ما حدث عقب اجتماعات دول "أوبيك+" كان ترجمة لبداية مرحلة جديدة سعودية-إماراتية، ويقال إن المملكة تدرس جدياً سحب كل مؤسساتها الإعلامية كالعربية ومجموعة "إم بي سي" بالإضافة لقناة الشرق وبلومبيرغ الاقتصادية من الإمارات في ظل تقارب متصاعد بين الرياض والدوحة وخاصة أن الدور الذي كان يلعبه الإماراتيون بصداقتهم الشخصية مع ترامب وصهره كوشنر باتت السعودية بحاجة لقطر أن تلعبه في ظل حكم الديمقراطيين للإدارة الأمريكية الجديدة.
الأصل أن سعد الحريري ووفقاً للعديد من المطلعين بات محرجاً؛ فليس بإمكانه أن يكون إماراتياً بعد كل هذا الصبر لعودته للمملكة، والرجل كان يؤسس لمرحلة مقبلة تكون السعودية ومعها الإمارات داعماً مباشراً لحملته الانتخابية المقبلة، وهذا الإحراج ينسحب على الحالمين بوراثته نهاد المشنوق وأشرف ريفي وغيرهما اللذين سيكونان أيضاً في نفس المأزق، لأن القاعدة التي عمل عليها هؤلاء تقول إن التقرب من الإمارات هو مدخل للتقرب من السعودية لكن ما يجري اليوم يضع الجميع في مأزق، وحده سمير جعجع حسم خياره واستقبل السفير السعودي وعقدا أمس مؤتمراً مشتركاً، فيما جنبلاط يفضل السعوديين مع إبقاء الخطوط مفتوحة مع الكويت وقطر والإمارات.
بالمقابل فإن التحرك القطري تجاه لبنان يبدو منسقاً مع السعوديين والأمريكيين والأتراك، وحدها الدوحة حتى اللحظة أبلغت الجانب الأمريكي أنها ستدعم أي برنامج إنساني وغذائي بإشراف دولي لدعم صمود اللبنانيين فيما السعوديون أبلغوا السفيرتين الأمريكية والفرنسية في زيارتهما إلى الرياض أن الرياض لا تزال تدرس مشاريع دعم موجهة للبنان.
وعليه فإن الزيارة القطرية الثالثة في أقل من سنة تعبر عن استعداد قطر للعب دور لحل الملفات الشائكة لبنانياً؛ خاصة أن عون حاول في لقائه الأخير مع وزير خارجية قطر استدراج الضيف القطري للإعلان عن مبادرة يحملها الرجل لفك شيفرة الأزمة والتي عجزت باريس عن حلها، إلا أن الرجل حاول مراراً القول لعون إن بلاده حريصة على أن تكون مساهمة في حل أي معضلة تساعد اللبنانيين للخروج من نفقهم المظلم.
فيما الأتراك غير جاهزين للحضور في لبنان دون ضمانات، لبنان لتركيا والذي يشكل الاقتصاد أولوية لها قبل أي شيء لا يمثل لبنان إلا سوقاً صغيراً ولا يستحق المغامرة، تركيا الحاضرة شعبياً لا تملك حليفاً سياسياً يمكن المراهنة عليه حتى لو حاول البعض لصق تهمة دعم الجماعات الإسلامية في طرابلس بالأتراك، إلا أن الواقع يقول العكس، سفير تركيا الجديد سيجول على القوى السياسية المحلية الصديقة والمعادية ويستثني من زياراته الجماعة الإسلامية لعدم وجود حضور حقيقي في المشهد اللبناني، أضف إلى ذلك أن الأتراك يهتمون مؤخراً بالجانب الإغاثي عبر مؤسساتهم، والسياسة اللبنانية مستنقع "مش محرز".
لكن الأكيد أن المرحلة الديمقراطية في الولايات المتحدة هي أكثر المراحل التي تخول قطر عن غيرها للعب دور إطفائي الشرق الأوسط لقربها من الإدارة الديمقراطية، وهذا بدا من خلال أدوار تلعبها في ملفات حساسة معلنة وغير معلنة؛ خاصة أنه لم يعد خافياً أنها لعبت دوراً لجمع إدارة بايدن مع القيادة الإيرانية قبيل تنصيب بايدن، كما تلعب دوراً في الملف الأفغاني وهي من تقوم مؤخراً بإعادة وصل ما انقطع بين السعوديين والإدارة الجديدة في واشنطن، وللتذكير أنه وبالاتصال الأخير بين بلينكن ونظيره القطري كان لافتاً أن الجانبين ناقشا بشكل معمق ملفي أفغانستان ولبنان.
وعلى قول المثل اللبناني "يا خبر اليوم بفلوس وبكرة ببلاش".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.