دقت الساعة الحادية عشرة مساءً .. الساعة التي تعني حكاية جديدة في حضن أبي. ليلة باردة من ليالي الشتاء القارسة التي تستوجب سحلبًا ساخنًا لذيذًا تُعدّه أمي ببراعة مع مزيج الكريمة والمكسرات، نشرب منه كوبًا واثنين ولا نشبع. يعلو صوت أبي يدعونا للتجمع الفوري على سريره لسماع الحكاية قبل أن يذهب كل منا للنوم.
في تلك الليلة، خلد إخوتي للنوم مبكرًا بعد يوم دراسيّ طويل .. أما أنا فلم أذهب للمدرسة بعد أن نصبت "نصبايةً" صغيرة في الصباح متعللة بالتعب، ما يعني أنني وقت الدعوة للتجمع لم أكن أشعر بإجهاد، بل كنت في كامل التيقظ والانتباه والترقب للحكاية الجديدة.
كنت أحب الحكايات من الصغر؛ الاستماع لها وحكيها وقراءتها وإعادة رسمها في صور وأحيانًا تقمُّصَها وتمثيلها. لا أنسى حين دخل أبي غرفتي فوجدني أضع تاج زفاف أمّي على رأسي وفي قدميّ حذاؤها ذو الكعب العالي وبين يديّ الكثير من القطن الأبيض استخرجته من وسادة.. كان مذهولاً مما أفعل وكنت ببساطة أعيد تمثيل قصة "سرّ اللحية البيضاء" من سلسلة المكتبة الخضراء والتي قرأتها قبلها بيومين.
كانت الحكايات تكسبني شعوراً غامرًا بالسعادة، وتنسيني همومي وأحزاني، وتنقلني إلى عالم غير الذي أتواجد فيه أضحك حين يبكي الجميع أو أبكي حين يضحكون.
"سلمان"
سارعت إلى سرير أبي.. اتكأت إلى جواره.. أضع رأسي على ذراعه الأيسر، يضع إصبع قدمي الأكبر بين إصبع قدمه الأكبر والذي يليه، رجله ضخمة جدًا ولا تتناسب مع حجم إصبعي إلا أنه كان تقليدًا معتادًا عند كل حكاية للتأكّد من يقظتي.. فإذا راحت عيني في النوم للحظات يضغط على إصبعي ضغطة قوية فأنتبه، هي في ظاهرها حكاية قبل النوم إلا أنّه في اليوم التالي لا ينسى أن يناقشني فيما سمعته.
حكى أبي عن شاب أسمع عنه لأول مرّة، إلا أنّه سيكون صاحب تأثيرٍ كبيرٍ في حياتي مستقبلاً. "سلمان" شابٌّ وسيم الطلعة، حسن المظهر، قويّ البنيان، يعيش في مدينة كبيرة يتزعمها أبوه. حكى أنّ أباه كان يحبّه جدًا لدرجة أنه يحبسه في المنزل حتى لا يفارقه.. أقاطعه: "يحبسه كالقطة؟".. "نعم": يجيب أبي. أحاول أن أحوّل دفة الحكاية للحديث عن القطط إلا أن أبي يستطرد سريعًا: كان النّاس في تلك المدينة يعبدون النار وكان "سلمان" شابًا مؤمنًا يخدم النار التي يعبدها، حتى أرسله أبوه ذات يوم كي يقضي بعض المصالح في طرف المدينة فرأى رجالاً يؤدّون حركات لا يعرفها فجلس إليهم وعرف أنهم يعبدون إلهًا غير النار. عاد إلى منزله فأعلم والده بما رآه واستأذنه أن يعود إليهم في اليوم التالي ليسألهم عن إلههم، فربطه أبوه بالأغلال في المنزل حتى لا يراهم مجددًا.
تمكن من الهرب مع تجار ذاهبين إلى الشام. في رحلته الطويلة يتنقّل بين سبع بلدان وفي كلّ مرّة يقيم مع راهبٍ مسيحيٍّ يتعلّم منه حتى يوشك على الموت فيدلّه على آخر. الراهب الأخير حدثّه عن نبيّ ظهر في جزيرة العرب له خاتم على ظهره يُسَمّى "خاتم النبوة" ويأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. في رحلته إلى يثرب يختطفه بعض رفاقه ثم يباع "عبدًا" إلى يهوديّ في المدينة. يبقى هناك حتى يهاجر إليها النبيّ فيلتقي به.
يختبر سلمان "محمّدًا" بطرق مختلفة، ويلاحظ الرسول أنّه يختلس النظر إلى ظهره كي يرى خاتم النبوة..فيُسقط عباءته حتى يستطيع سلمان رؤيته. يدخل سلمان في الدين الجديد ويسميه النبيّ "الباحث عن الحقيقة".
قصة سلمان لم تكن عابرة في حياتي بالبساطة التي حُكيت بها. قرأت عن ذلك الشاب أكثر مما قرأت عن أيّ "صحابيّ" آخر في تراثنا الإسلاميّ. شكَّل لي مشكلة بعد أن كبرت وعرفت قصته أكثر، وارتبطت به وبالطريقة التي أسلم بها.
التيه
التيه هو أكثر المراحل رعبًا في حياة أي إنسان، أو بالأحرى أي "بحثٍ عن الحقيقة" في أمر ما، حقيقة الدين أو الحب أو الطموح أو الشغف أو الصداقة أو شئٍ آخر. التيه هو المرحلة التي يصاحبك فيها الكثير من الأسئلة، ووجعٌ دائمٌ في البطن، ذبولٌ في العينين، تسارع في ضربات القلب يُفسد يقظتك ونومك، إلا أنّك بعد تلك المرحلة ترى الأشياء على حقيقتها. التيه في كثير من أحواله يكون مصحوبًا بالصدمة والجنون والكثير من غياب المنطق.
لا أدري لماذا يقلق الناس من كل من يدخل مرحلة التيه! لا أفهم لماذا يصابون بالصدمة حين يسأل أحدهم سؤالاً جريئًا في الدين مثلاً! هل الصدمة من الأسئلة في حد ذاتها أم من طبيعتها؟!
يقلق الناس دائمًا من الأسئلة.. حول العلاقات الاجتماعية أو طرق الزواج المتعارف عليها، أو شكل الملابس الموروثة من الأجداد أو طريقة الحكي والتعامل. يقلقون من كلّ "عقل" يعمل في اتّجاه غير الذي اعتادوا عليه. قرأت عن قبائل تعتبر الفتاة أجمل كلما كانت سمينة، يعملون على تسمين العروس قبيل زفافها بكمٍّ ضخمٍ من اللبن والزبد والدهن واللحم. البنات اللاتي يعترضن فيتقيّأن الطعام يقومون بقتلهنّ، فتلجأ أخريات للهرب.
أقارن بين رد فعل "نبيٍّ" يجلس في هدوء مع "سلمان" ليجيب عن أسئلته الكثيرة وبين أي باحثٍ عن الحقيقة الآن يسأل سؤالاً فيتلقى اتهامًا فوريًا بالجنون أو الغباء أو يتعرض للتشويه أو غيرها من ردود الأفعال التي تفهم منها أنك تعيش في مجتمع لا يعرف عن دينه شيئًا وربّما عن دنياه.
أقارن بين رجل قويّ كان سيِّدًا في قومه يملك كامل السلطة ووفير المال والشباب، يرضى أن يباع عبدًا ثم يسأل ويسأل ويسأل، فقط أملاً في أن "يطمئنّ" قلبه لحقيقة ما يؤمن به، وبين من يعامل كلّ شيءٍ في دنياه على أنه مجموعة من المسلمات والحقائق التي لا تستدعي البحث وراءها أو التفكير فيها.
الحقيقة
حين تقرِّر أن تسأل أو تبحث في جبال الحقائق والمسلمات التي تعيش فيها سواء ما يتعلق بالدين أو الاتجاه السياسي أو الطريقة التي يعاملك بها شريكك أو أبوك أو ابنك أو ما تفعله في عمرك أو ما تُصدِّرُه للنّاس على أنّه نجاح باهر، فإنّه قرار يحمل قدرًا كبيراً من الشجاعة في مواجهة نفسك والعالم.
ربما تكتشف بالبحث أنّك تعيش شكلاً من "الوهم" كالذي عاش فيه سلمان حياته الأولى، وهم من نوعية أن تصدّق أنّك إنسان ناجح بينما لا تعدو كونك نصابًا صغيرًا تجيد التقاط صور جيّدة لنفسك في المحافل الاجتماعية الكبيرة، أو تكتشف أنّك تخنق نفسك في عادات اجتماعية بالية تفسد حياتك، أو أنَّك تقضي على عمرك في وظيفة يُجْمِع من حولك أنّها أنسب ما تصل إليه قدراتك، بينما لا يعرف تلك القدرات إلا أنت. أو رُبّما تكتشف أنّك في صحبة شريك يحتقرك ويؤذيك أو أنّك مغرّر بك في انتمائك الحزبيّ.
أتخيل صحوة تحلّ على هذا المجتمع تجعل التفكير "سلوكًا جمعيًا"، فنبدأ في البحث بدأبٍ في حقيقة الأشياء التي نحياها، حقيقة الكون وتفاصيله، الزواج وعاداته، الدين وفقهه الزمانيّ والمكانيّ، القوالب الاجتماعيّة الجاهزة التي لم تُفَصَّل أبدًا لأجلنا، وظائفنا التي تأكل أعمارنا.. سلوكًا جمعيًّا قُوامُه التفكير والحثّ عليه، البحث المستمرّ والترويج لثقافته، سلوكًا جمعيًّا يغيّر إيماننا، وينقذ عقولنا من الضلال نحن وأجيالاً تتبعنا، سلوكًا يجعلنا أقرب لفطرة الله التي فطرنا عليها "إن في ذلك لآياتٍ لأولي الألباب".
أن تبحث عن "الحقيقة" يعني أنّك أجرأ ممن يقف دون سلاح وبصدرٍ عارٍ في معركة غير متكافئة؛ الثاني يعرف أنّ مصيره الموت أما أنت فسيحدث لك أمرٌ أصعبُ من الموت، أمرٌ استحقّ من سلمان في لحظةٍ فاصلة أن يتحوّل من سيّد إلى عبد قبل أن يستردّ حريته مرّةً أخرى، وأن تسيل الدماء من قدميه في دروب السفر الطويلة.
"هل هذه أسطورة؟" أسأل أبي
"لا … بل قصة حقيقية.. لكنّها حدثت منذ أكثر من ألف عام"
يستطرد: في غزوة الأحزاب يأتي سلمان بفكرة عبقرية "من خارج الصندوق" أنقذت المسلمين؛ هي فكرة حفر خندق حول المدينة. بعد الغزوة يتنازع المهاجرون والأنصار إلى أيٍّ منهم ينتمى سلمان، فيقول المهاجرون: "هو منّا" ويقول الأنصار: "بل منّا"، فيقول النبي صلّى الله عليه وسلم: "سلمان منّا آل البيت".
يُدَرِّسون قصة "سلمان" للصغار ويتغنون بها: سلمان الذي يجب أن نتعلّم منه، سلمان الذي كان يسأل كثيرًا، سلمان المتجول في سبع بلاد في أرض الله، سلمان الذي خالط المسيحيين واليهود والمسلمين، سلمان "الباحث عن الحقيقة". يقولون ذلك ووقت التطبيق تجد أكثرهم لا زال يعبد النار!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.