لقد صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال مؤتمر صحفي قبيل توجهه إلى بروكسل للمشاركة في قمة قادة الناتو 14 يونيو/حزيران الجاري، أن "تركيا هي الدولة الوحيدة الموثوقة لإدارة الوضع في أفغانستان على الوجه الصحيح".
لا شك أن هذا التصريح يعكس بطبيعته الدور القائم حالياً بشكل جيد للغاية. لا أحد يختلف على أن الوضع في أفغانستان يحتاج إلى إدارة بالمعنى الحقيقي للكلمة، سواء بقي "الناتو" هناك أم انسحب، وسواء غادرت الولايات المتحدة أو بقيت وحدها؛ هناك في النهاية وضع يحتاج إلى إدارة، ولا يوجد بين القوى الدولية الفاعلة أحد يضاهي تركيا من حيث القدرة على التعامل مع هذا الوضع.
هناك العديد من الدول لها علاقات أو حدود مشتركة مع أفغانستان، إلا أن أي علاقة من هذه العلاقات تبقى في حدود العلاقة مع طرف واحد فحسب من الأطراف الأفغانية، بينما تمثل مصدر توتر وقلق لبقية الأطراف.
مما لا شك فيه أن الحقيقة الواضحة للغاية والتي لا يمكن تجاهلها في أفغانستان هي "طالبان"، ولا إمكانية لخطة فعّالة قابلة التحقق، لإدارة أفغانستان بأمان تتجاهل طالبان. حتى حلف "الناتو" ذاته أدرك تلك الحقيقة بعد 20 عاماً خلت من الصراع، ولا يمكن قراءة ذلك إلا على أنه اعتراف من قبل "الناتو" بإخفاقه التام على مدار الـ20 عاماً الفائتة.
لا يمكن تجاهل حقيقة أن حركة طالبان التي كانت سبباً لدخول ووجود قوات حلف الناتو في أفغانستان، أجبرت الولايات المتحدة مؤخراً على الانسحاب من أفغانستان بعد 20 عاماً، لتظهر كقوة محلية استطاعت أو أثبتت أنها تستطيع مواجهة الجميع.
ولذلك السبب سيكون لها دور رئيسي في تحديد مستقبل أفغانستان. وليس من قبيل الصدفة بأي حال ما أشار إليه أردوغان خلال كلمته من أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن تدير الوضع، وأنها الدولة "الموثوقة" الوحيدة. لا سيما أن تركيا لم تلعب على الإطلاق أي دور عدائي في الصراع الدائر في أفغانستان، منذ دخولها إلى هناك ضمن حلف الناتو. ولم تدخل في أي صراع مع أي طرف من الأطراف الأفغانية. كما أن قربها التاريخي والثقافي من المنطقة هناك وفر إلى حد ما الحماية لعناصر الناتو، حيث إن وجودها هناك أعطى الشرعية والحماية لعناصر الناتو إلى حد ما.
لم يشهد الجنود الأتراك أي اعتداء في أفغانستان، سواء من قبل الشعب الأفغاني أو من قبل حركة طالبان كذلك على الرغم من أنها العدو الأكبر لحلف الناتو. وساعد في ذلك فرض تركيا احترامها عبر تعزيز روابطها التاريخية والثقافية، إلى جانب تركيزها على المهمة الإيجابية التي تتواجد لأجلها هناك، والثقة التي تحظى بها كونها لم تنخرط في أي أعمال عدوانية، كما أنها لا تملك أي أهداف مدمرة في البلاد، على العكس فهي منخرطة في الأنشطة الإنسانية من أجل السلام والهدوء لجميع الأطراف والقبائل في أفغانستان.
وهذا بالطبع يرجع إلى أن تركيا أثبتت حتى الآن عبر جميع سياساتها مواقفها من جميع الدول المعنية بشؤون أفغانستان، أنها دولة غير متحيزة، وأنها منسجمة مع المصالح المشتركة للشعب الأفغاني؛ ولذلك تعتبر تركيا مؤهلة للغاية لمهمة تحقيق الاستقرار داخل أفغانستان، لما تملك من علاقات طيبة مع هذا البلد، وكذلك مع البلاد التي تجاوره ومعظمها دول تركية، فضلاً عن العلاقات القوية مع باكستان.
لكن ومع ذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار بعض التهديدات أو المخاطر في المرحلة الجديدة في سبيل المحافظة على تلك الموثوقية. لا سيما أننا نتحدث عن وضع تحرص فيه طالبان على سد الفراغات الناشئة عقب انسحاب قوات الناتو من المنطقة؛ ولذلك نجد أن بعض المناطق بالفعل تخضع بشكل سريع لطالبان دون مقاومة بل بعضها عن رغبة وطيب خاطر. ما يعني بوضوح أن طالبان باتت تشكل وزناً سياسياً معتبراً بالتوازي مع الثقل العسكري المتزايد. إلا أن هذا الوضع يواجه حتماً أنواعاً أخرى من المقاومة، ولا شك أن هذه المقاومة ستحرص على دعوة تركيا لملء فراغ المهمة التي أخلاها الناتو.
في هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن العديد من التطورات السياسية قد تأخذ بتركيا إلى وسط توترات لن ترغب بها أبداً. ولذلك علينا أن لا ننسى أن ثقل تركيا ومصداقيتها لا ينبعان من كونها قوة ضمن الناتو، بل لأجل أنها "تركيا" في المقام الأول.
في الواقع لقد عبر بعض الأفغان الذين تحدثنا إليهم عن رغبتهم في أن تخرج تركيا بشكل تام من حلف الناتو وتتحرك بمفردها ووفق ثقلها الإقليمي، وأن تكون بجانب الشعب الأفغاني وفق تفاهمات جديدة. وبالطبع يتم التعبير عن هذه الرغبة على الرغم من إدراك صعوبة تحقيق هذا الشرط من الناحية العملية.
على صعيد آخر، يجدر الانتباه إلى أننا لم نسمع حتى الآن أي صوت فيما يتعلق بأفغانستان من أولئك الذين اعتادوا على طرح أسئلة من شاكلة "ماذا تفعل تركيا في سوريا وليبيا والصومال؟". وهذا الصمت في حد ذاته مثير للاهتمام.
ربما السبب في ذلك هو العلاقات التاريخية بين تركيا وأفغانستان، والعلاقات القوية الناشئة في الماضي القريب، مما يجعل الأمر يبدو بديهياً. بأي حال هناك أمر آخر مهم للغاية، يتعلق بأسلوب علاقتنا، حيث إننا نتملك استثمارات ضخمة وقدمنا مساعدات إنسانية هائلة في أفغانستان، مكنت من تأسيس علاقة قوية قائمة على الثقة. لكن لسوء الحظ، لا يمكننا أن ندعي بأننا ندير تلك الاستثمارات بشكل جيد وفعال.
ودعوني أستشهد بمثال من تصريحات وملاحظات صديق أفغاني ركز على تلك النقطة بالتحديد، حيث يقول: "سواء الدول المجاورة لأفغانستان أو الدول الأخرى حول العالم؛ عندما تقدم أي منها منحة دراسية وتستثمر في طالب أفغاني، فإنها تدعمه حتى النهاية وتعتبره سفير النوايا الحسنة لبلدها طالما هو على قيد الحياة، ولا يقطعون العلاقات معه. لكن للأسف تركيا ليست كذلك، تركيا تستثمر في الطلاب نعم، وتغطي المصاريف التعليمية حتى يحصل الطلاب على درجة الماجستير أو حتى الدكتوراه، لكن بعد عودة الطلاب الذين تخرجوا من تركيا إلى أفغانستان، ينقطع معظمهم عن تركيا، والأهم من ذلك أن هؤلاء الخريجين يواجهون صعوبات في الحصول على تأشيرة عندما يريدون الذهاب إلى تركيا. يجب على تركيا أيضاً الانتباه إلى هذه المشكلة والاهتمام بالخريجين الذين يعتبرون رأس مالها في أفغانستان من خلال إيلاء المزيد من الاهتمام ".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.