في مصر، كل يوم لدينا قضية جديدة، "تريند" جديد، ومؤخراً صار من المعتاد تصدر قضية تحرش لمنصات التواصل الاجتماعي.
وكل فترة قصيرة نجد تغيراً في العناوين، فمررنا في الفترة الأخيرة بمتحرش القطار، متحرش المطار، المتحرش البرازيلي، المتحرش بطفلة المعادي، متحرش الوسط الثقافي، المصور المتحرش، مصمم الأزياء المتحرش، حقيقة لا يسعني ذكر كل القضايا. في جُل القضايا، سمعنا نفس الأسباب والحجج المبررة لموقف المتهم بالتحرش أو التحرش بشكل عام.
حينما تُقرر البحث عن الأسباب التي قد تدفع أي شخص لتبرير فعل التحرش، تجد من يرون التحرش ضرورة لضبط وتقييد حرية المرأة في ارتداء ما تشاء، وأنه يجب التصدي للمرأة باسم الدين والقيم المجتمعية.
متلازمة مصر والتعاطف مع الجاني
من الممكن فهم تبرير التحرش بالمرأة، لكن من الغريب تبرير تحرش رجل برجل آخر، كما تابعنا عدة قضايا أثيرت مؤخراً تم فيها اتهام طبيب أسنان شهير. الشخص الذي يتعرض للتحرش هو ضحية فعل بشع ومؤذٍ يتسبب بألم نفسي كبير سواء كانت الضحية رجلاً أو امرأة، طفلاً أو طفلة، بكل المقاييس التحرش جريمة، وبكل السبل نجد في مصر متلازمة شهيرة يمكن تسميتها "متلازمة مصر".
على غرار متلازمة "ستوكهولم" الشهيرة نجد في مصر سعياً مستمراً لتبرير موقف المتهم بارتكاب تعديات جنسية تسببت في إيذاء غيره. في مصر فقط تجد الضحية الملام الأول، وإن كانت ملتزمة بقيم الأسرة والدين، فإنه يجب عليها الإتيان بكل الأدلة القاطعة والدامغة التي تثبت تعرضها للأذی. على الرغم من أن تلك ليست مهمتها نهائياً بل مهمة السلطات والأجهزة الأمنية المنوط بها التحقيق.
سالمونيلا ولعبة نيوتن
منذ أكثر من عام صدرت أغنية "سالمونيلا" للمخرج المصري تميم يونس، أغنية اختصارها أن من ترفض مواعدة الرجل عليها تحمل التبعات، "عشان تبقي تقولي لأ". تبريرات عديدة يستند إليها الذكر الشرقي في حربه ضد المرأة ومعه آلاف من التأويلات الدينية المتطرفة والقيم المجتمعية الهشة.
في مسلسل "لعبة نيوتن" الذي تم إنتاجه في عام 2021 ولاقى نجاحاً لافتاً وكان حديث كل مواقع التواصل في شهر رمضان وما بعده لما ناقشه من قضايا تتلاحم مع واقعنا اليومي المعاش. تحدث المسلسل بطريقة فنية عن جريمة الاغتصاب الزوجي الذي مارسه "مؤنس" بحق "هنا"، ومن تلك النقطة أثيرت عدة قضايا وأطلقت حملات للحديث عن "الاغتصاب الزوجي".
التحرش جرائم بحكم القانون في معظم دول العالم، مع ذلك تكاد لا تنجو أي امرأة في مصر من التحرش، ويمكننا التكهن أيضاً بأن الأطفال لا ينجون من التحرش. وعلی اختلاف الطبقات الاجتماعية التي ينتمي إليها المتحرش نجد أن رغبة المتحرش في السلطة على جسد آخر بلا وجه حق، والاعتداء عليه بلا حق هو ما يجعل الجريمة كبرى، لا يوجد شكل محدد للمتحرش، أو وظيفة معينة، أو سن معين، بل اختلال واعتلال واضح. قبح الفعل ليست في قسوته فقط، بل ينبع من الدافع الذي يدفع الجاني لارتكاب جريمته، الشعور التام بالفوقية والاستعلاء مقابل احتقار الضحية والرغبة في استغلالها.
أجد أننا في حرب ضد الأفكار المسمومة والتقاليد العمياء، والوقوف أمامها في معركة هي الأهم في المجتمع العربي ككل إذا أردنا الخروج من عباءة الإرهاب والأمراض النفسية الجمعية التي تجعل المرأة في مكانة أقل مقابل مجرمين ومتحرشين يجب أن ينالوا عقاباً رادعاً.
علاج التحرش الجنسي
يبدو علاج الأزمة مرهقاً ويحتاج لمجهود جبار ولعشرات السنين، ولكن الأمر لا يحتاج أكثر من قرار سيادي رحيم يدرك ويعرف قسوة ما يعانيه البشر في مجتمعنا. تصاعد الخطاب المضطهد لحقوق المرأة والرغبة الجامحة التي تجتاح مناصري الموروث الشعبي المؤيد للختان وشرعية الاغتصاب الزوجي وتأييد التحرش، وكل هذا من أجل الحصول علی تأييد العامة وتبوؤ مكانة بينهم، هذه المكانة التي تُبنی علی تضليل الناس من أجل إرضاء شعورهم بالفوقية تجاه المرأة. هذا الشعور الذي يتغذی من الخوف الذي يعاني منه الجميع في ظل العجز عن التصريح بأي رأي، رئيسك في العمل يمكنه رفدك إذا قلت رأيك، ودكتور الجامعة يمكنه أن يتسبب في رسوبك إذا عارضت قوله، مدرس الثانوية يمكنه أن يطردك إذا قلت رأيك، أي قول في أي شيء قد يراه أي شخص كلاماً تافهاً يمكنه أن يزج بك إلی السجن، مع ارتفاع الاضطهاد والكبت المجتمعي الذي يُمارس بعشوائية ساحقة ضد الجميع نجد أن تصاعد اضطهاد المرأة يبدأ من هذه النقطة، من درامية الحياة وقسوتها يمكن أن يتحول البشر إلی وحوش تأكل وتقتل بعضها.
في رأيي يبدأ علاج هذه الأمور أولاً عن طريق التوعية، يبدأ العلاج حينما ينشأ الأطفال في المدارس علی الاحترام، ويبدأ حينما يتم توعية الأجيال القديمة بحقيقة المعركة ضد الإرهاب الفكري والأفكار القمعية التي تمارس بحق الطفل والمرأة أو أي مستضعف.
يبدأ الحل الآخر لعلاج هذه القضايا بوجود قوانين أمنية حاسمة ورادعة لا ترتكز إلا على أن الجسد ملك صاحبه لا يحق لأي شخص آخر التعدي عليه أو إيذاؤه، وكذلك وجوب إمكانية تطبيقها على أي مجرم دون النظر لمكانته الاجتماعية أو نوعه أو شكله، يجب أن تعلن الدولة أن السلطات الأمنية والقضائية هي ملجأ الضحية الأول وليس الإنترنت الذي يجعل القضية قضية رأي عام، يجب أن تثق الضحية بأنها حينما تذهب لإبلاغ الشرطة ستجد تعاوناً وحرصاً علی تحقيق الواجب والعدل بدلاً من محاولات التحرش أو السخرية والاستهتار التي قد تحدث نتيجة غياب وعي رجل الأمن، يجب أن يتم توعية كل رجل أمن أن الضحية يجب أن يتم السعي لتحقيق مطالبها بالعدل ليس لأي سبب إلا لتطبيق سيادة القانون، وإرساء العدالة الاجتماعية دون تمييز على أساس الجنس.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.