الحبّ روح الكون، وحين ميّز الله الإنسان جعله ناطقاً، ولطالما ارتبط نبوغ التّعبير عن الدّاخل بقوّة اللغة المعبِّرة، فكلّما كان داخل الإنسان شفيفاً متّصلاً بالحبّ الخالص جاءت لغته أكثر وضوحاً ورسالته أقرب أن تصل القلوب، قد يفسّر ذلك لماذا قدّس البشر الحكماء وتبعوا الأنبياء ومجّدوا الشّعراء، لقد استطاع أولئك أن يتحرّروا من قيود الواقع ويتواصلوا مع الدّاخل، وهو بدوره متواصل مع الكون، متناسق ومنساب مع نغماته وإيقاعه الأصيل النقيّ، فوجدوا إجاباتهم فيهم ونطقوا بلغة الحقّ وعبّروا عن معنى الحبّ اللانهائيّ وعن الحياة.
ليس في عصرنا قدّيسون ولا أنبياء، لكنّ وتيرة الوعي تتصاعد بشكل ملحوظ، وقد بتنا نشهد تحطّم أصنام لأفكار كبّلت البشر لعهود. وليس بعيداً ما نعيشه مع انتشار كورونا، وكيف رجم كثيرون تهديد حرّياتهم متسائلين ومشكّكين ورافضين ما تحاول القوى المسيطرة على العالم فعله عبر التخويف والتهويل وزج النّاس في بيوتهم وإجبارهم على التفكير بأحاديّة جمعيّة لا يستسيغونها. إذاً لعلنا نشهد وعياً نوعيّاً يرفض الثّنائيّة والتلاعب المبرمج بحياة الإنسان. فهل نشهد ذلك على صعيد أغاني الحبّ؟ هل عبّرت الأغاني تاريخاً وحاضراً عن معنى الحبّ؟
منذ القدم تمجّد الأغاني الحبّ وتصوّر أحوال المحبّين. إنّ المتابع لاختلاف أشعار الأغاني في الماضي عنها اليوم، سيظنّ أنّ هناك عوامل مجتمعيّة وفكريّة ساهمت في ظهور ما سمّاه البعض الأغاني الاستهلاكيّة، وهبوط مستوى التّعبير عن حالات الحبّ حتّى بلغ بعضها التعبير عن الشهوة أو الحاجة الماديّة، وليس هذا الواقع مقتصراً على الأغاني العربيّة. لقد كانت قبائل العرب تفخر بنبوغ أحد شعرائها فتقام الولائم والأعراس، بحسب ابن رشيق في كتابه احتماء القبائل بشعرائها، فما الذي تغيّر؟
ضمن الحرب على وعي الإنسان عن طريق تكرار ما يضرّ على أنه النافع، نشهد ثورة أغاني مهرجانات تلاقي صدى جماهيرّاً هائلاً، نسمعها في الشّارع والنّادي الرّياضيّ والمطاعم والبيوت، تتكرّر نوتاتها العاليّة وكلماتها بوتيرة متصاعدة، وهي سائرة نحو سيطرة أكبر؛ إذ تمكنها مواقع التواصل من الانتشار. لا أحكام هنا في هذه المقالة على تلك النّوعيّة من الأغاني، إنّما محاولة لربط هذه الظّاهرة بما هو أكبر منها، بل ربط كلام أغاني حقبة خلت صوّرت على أنّها شهدت معاني حبّ مختلفة أكثر سموّاً ورقّة، وغنّاها كبار المطربين، بمعنى الحبّ الحقيقيّ، لمعرفة قربها أو بعدها عنه.
تتغنّى الأغاني عادة بالشّوق والبعد والغيرة والحيرة وكثرة السّهر وتجافي المحبّين، وتزخر كلماتها بالعتب والخذلان والحنين وحتّى قد تعرف بعض الأغاني وعيداً أو تهديداً نابعين من قسوة المحبّ وشدّة تعلّقه بحبيبه، حيث لم ينل سعادة وصله أو هناءة قربه، وهناك أغانٍ تمدح الشّكل الخارجيّ وأخرى تلتذّ بعذابات اللوعة والهجران وقد تصوّر بعضها نرجسيّة الحبيب وقبول المحبّ لها، لا بكونه حبّاً غير مشروط إنّما هي دونيّة وعدم تقدير للذّات. فأين هي تلك المعاني من جوهر الحبّ؟ ولماذا هذه المقارنة؟
لأنّ الحبّ حالة سلام لا تعلّق والسّعادة هي حالة بداءة في الإنسان لا تتأتّى بقرب شخص أو بعد عنه، كما لا تتأتّى الهموم بعدم الحصول على وظيفة الأحلام مثلاً، هذا لمن يعي مكانه الحقيقيّ الموجود له أصلاً في هذا الكون، ويتوحد بوجود أصيل متناغم مع الكون، اللغة أحد سبله كما أنّها نتيجته وعلامته. وبهذا نسأل هل تعبّر تلك الأغاني عن معنى الحبّ الأصيل؟ تلك الأغاني تلغي مبدأ الأخذ والعطاء الصّحيّ في الحبّ، تجعل الإنسان عبداً لإنسان آخر، أو تابعاً له، تكرّس الشهوة والجنس مفصولين عن الحبّ، والتعلق لا الفناء والمحبّة. من أقوال بوذا "التّعلّق سبب كلّ معاناة"، وهذا ما نرى أنّ الأغاني تخلق منه واقعاً عاديّاً وحالة متقبّلة من المحبّ، فيصبح متعلّقاً لا محبّاً، وهذا منافٍ لمعنى الحبّ.
أنت عندما تتعلّق بشيء ما تحاول أن تحصل عليه، إذاً أنت تتمسّك به من دون وعي وبكل سبيل تحاول أن تتملّكه، وفي هذا التمسّك رفض، إذ كلّ الأشياء التي نعاني بسببها تتمحور بين هذين المحورين: التمسك والرّفض؛ واللذين إذا ما أمعنا النّظر إنما هما شيء واحد ذو وجهين… إنّه الخوف: الخوف من الرّفض، من الماضي، من الآتي، من الوحدة، من الألم، من الأحكام، من الآتي. والخوف نقيض الحبّ، فهل تمكن هذه الأغاني من ملامسة القلب سعادته الدّاخليّة الأصيلة؟ أم أنّها تفعّل عالم الثّنائيّات: المع والضّد السالب والموجب الصّح والخطأ، عالم يغيب فيه الحبّ؛ إذ السّلطة لأحكام العقل بأفكاره عن ثنائيّات الحياة، لا القلب الشّاهد على سريان الحياة وتدفقها فيه بتسليم ورضى تماماً في الوسط، ركيزة وسراطاً تعبر فوقه الرّوح عالم الأفكار إلى جنّة سعادتها الخالدة والموجودة فيها بالأصل.
الحب وسط بين التمسك والرفض اللذين هما سبب الآلام. وتلك الأغاني تزخر بكلمات تمجد الألم، وبها يحضر وهم الذّات "الإيغو" وشتّان بين الحالين. الحبّ إلغاء للرّفض، حالة حضور، قبول بطواعية وتفهم للإرادة الإلهية هو تفهم وجود كل شيء في الحياة. يقول ابن عربي: "لقد كنتُ قبل اليوم أنكر صاحبي، إذا لم يكن ديني إلى دينه داني/ ولقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان/ وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح وتوراة ومصحف وقرآن … أدين بدين الحبّ أنّى توجهت ركائبه فالحبّ ديني وإيماني"…هكذا هو المحبّ، حرّ حتّى يصبح كوناً من عوالم يشدّها إليه وتشدّه نحو الحقيقة الخالدة، لذلك فالمحبّ في الأصل متناغم مع كلّ الأوضاع، محبوبه بعد في المسافة أم قرب في ذاته، لا يشعر بضغينة أو حسد ولا يتنافس مع غيره ليتحصّل على ساعة لقاء أو مكانة في قلب محبوبه، هو لا يشترط حبّاً في المقابل، فحبّه سعة الكون والكون فيه، وعنده من السّماح والقبول ما يرمي سكينة السعادة في قلبه، فلا يشعر بحاجة إلى أحد ولا يربط سعادته بأحد، من دون تخلّ بالمعنى السّلبيّ الحاقد أو الذي ينتقص، بالعكس هو تخلّ يتجلّى فيه السّماح والشّعور بالآخر كجزء من الرّوح حيث السّلام المطلق.
لقد كانت اللغة أسمى سبل التّعبير، وحين امتلك الإنسان اللغة جعل نفسه سيّد الكون المطلق، وعبّر المتصوّفون والأنبياء والحكماء عن دواخلهم بحريّة تطابق فيها الدّاخل الخارج، فهل من المقبول أن نستخدم اللغة للتعبير عن عوالم مشوّهة وإنسان عبد وواقع داخليّ يعكس خارجاً هجيناً محكوماً بقيود ثنائيّات الخوف والمادّة الصّرف والأنا التي تحارب قيم الخير والسّعادة والجمال والحبّ اللامشروط؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.