لقد انتهى عصر السيطرة الأحادية من قبل الولايات المتحدة وأوروبا على العالم، وأصبح دور الشرطي الذي تلعبه واشنطن جزءاً من التاريخ بعدما فقدت قدرتها على التدخل في كل بقعة من بقاع العالم وضاق نطاق سلطتها لتوجيه الدول وتغيير الأنظمة والحكومات.
كما انهارت قدرة أمريكا على الهيمنة على الاقتصاد العالمي أمام منافسة شرسة من الصين، وكذلك فقدت مكانتها واهتزت سطوتها ونفوذها على الدول والشعوب، كما تحولت سياستها الاستعمارية الممنهجة على المستوى الدولي إلى حالة من السلب المباشر، وهو ما يبرهن على أن الوجود الأمريكي على رأس النظام العالمي قد بدأ بالاهتزاز والانهيار.
إننا نتابع انهياراً تدريجياً لإمبراطورية تتصارع داخلياً، لسان حال الساسة الأمريكان يقولون: "لم نعد قادرين على حكم العالم بعد الآن، علينا على الأقل أن نواصل تأثيرنا على أجزاء معينة من العالم".
لقد أصبحنا أمام عالم يضعف فيه من يتقرب لأمريكا ويقوى من يبتعد عنها.
في المقابل، ماتت فكرة الاتحاد الأوروبي وانهارت جاذبية أوروبا المتحدة، ولم يبق كيان صلب داخلها سوى ألمانيا. ككيان متحد، بدأت القوة الاقتصادية الأوروبية بالانهيار إذا ما استثنينا بضع دول.
انهيار القوى العظمى وظهور الدول الصاعدة
يعيش العالم حالياً حالة من التحول التاريخي المبنيّ على قرون مضت لا تحولاً آنياً قصير المدى، بل يشهد زلزالاً أقوى بكثير مما حدث عندما أعيد تنظيم قوى العالم خلال الحربين العالميتين والحرب الباردة؛ إذ إنه في الوقت الذي تنهار فيه القوى العظمى تظهر على الساحة دول صاعدة لها إرث إمبراطوري وشعوب طموحة.
تواجه أمريكا وأوروبا حالياً تحدياً من هذا النوع للمرة الأولى منذ قرون، ويبدو أنهما أقرّتا سلفاً أنهما لن يستطيعا اكتساح المنافسين وإخضاعهم بالكلية. لذلك بدأتا في التنازل عن الجزء الأكبر من طموحاتهما المبنية على فكرة العالم أحادي القطب.
مفاجأة الشرق والغرب
تعتبر تركيا واحدة من الدول المتداخلة في هذا التحول التاريخي بعدما ظهرت على الساحة الدولية بطموحاتها ورؤيتها بشكل سريع وديناميكي للغاية بعدما استغلت التردد والغموض الذي عاشه العالم خلال السنوات الأولى من القرن الـ21.
لقد صارت تركيا دولة مفاجأة يتابعها الشرق والغرب بانتباه ويتجادل حولها بفضول كبير، بل إن الطفرة التي تعيشها تركيا على مستوى العقلية والقوة العسكرية تقلق حلفاءها في الغرب أكثر من أي طرف آخر.
إن الغرب والتحالف الأمريكي-الأوروبي ينسحب اضطرارياً من مساحة السلطة الدولية أحادية القطب، كما أنه يشعر باستياء شديد من صعود قوى إقليمية جديدة لتواجهه بعدما "حاول السيطرة عليها" وفشل.
إن الغرب يرى ويعي جيداً أن صعود قوة إقليمية تضيق الخناق عليه في مساحات نفوذه يمكن أن يتحول إلى عاصفة تقيد الوجود الغربي في مناطق العالم المركزية.
تنفذ تركيا مبادرات جيوسياسية كبرى في مساحة واسعة تمتد من سوريا والعراق إلى الصومال ومن قطر إلى وسط إفريقيا ومن البلقان إلى أفغانستان، بل إنها فعلت ذلك وكان في مواجهتها قوى عالمية تقليدية كفرنسا في الحالة الليبية وروسيا في معركة تحرير قره باغ.
إن تركيا تحسن للغاية قراءة ضيق أفق العقلية والنفوذ الغربي والاتجاه الذي تسير نحوه موازين القوى الدولية، وكيف أن هذا التغير الكبير يفتح أمامها مساحات واسعة، فهي تقدم على خطوات في ذكية ومتوازنة وفقاً للتطورات الجديدة.
كما تحسن تركيا حساب فقدان الغرب السيطرة المنفردة على العالم عسكرياً واقتصادياً، وما هو نصيبها من هذه الكعكة.
إن تركيا تحجز لنفسها موقعاً مركزياً في النظام العالمي القادم، في الوقت الذي تتغير فيه ملامح الموارد والأسواق والممرات الاقتصادية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.