في 15 يونيو/حزيران الماضي، ذهب الشيخ محمد حسين يعقوب إلى محكمة جنايات القاهرة المنعقدة في مجمع محاكم طرة، بعد استدعائه للإدلاء بشهادته حول قضية تُعرف بـ"خلية داعش إمبابة"، حيث يُتهم فيها بعض الشباب بالانضمام تنظيمياً وفكرياً إلى تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، فضلاً عن مخططات تخريبية بحق مؤسسات الدولة. سبب الاستدعاء أن الشباب المتّهمين قالوا إنّهم يتبنون أفكاراً للشيخ يعقوب، لكن الشهادة تضمَّنت أسئلةً لا تخص القضية ولا الشباب، بل كانت بمثابة محكمة تفتيش -كما وصفها البعض- أجبرت الشيخ على التجرد أو التنكر لبعض ما دعا إليه سلفاً. هذا أيضاً يأخذنا إلى النظر إلى مساعي النظام الحالي في مصر نحو إقامة تجريد كامل للأفكار الدينية بمختلف تنوعاتها، بل وأحياناً إجبار أصحابها على التخلّي عنها. فماذا تريد الدولة من الاتجاهات الدينية التي تختلف مع سردياتها؟ وكيف سعت إلى التتويب والاعتذار مِن مُريدها؟
الإخوان و الأزهر الشريف
جاء نظام ما بعد 3 يوليو/تموز مُشوّهاً لدعوة الإخوان المسلمين، واصفاً فكرتها بالتطرف، دعوة تسعى إلى سلطويّة لا تُراعي الأقليات الدينية، ولا تحترم الاختلاف الفكري والثقافي بين فئات الشعب المختلفة، وحججّ أُخرى استخدمها النظام لتبرير انقلابه العسكري بدافع الحفاظ على الوطن من الجماعة غير الوطنية، أو كما يتم تسميتها دائماً بـ"أهل الشر".
استقر حكم النظام الحالي أوائل 2015 من الناحية الهيكليّة للمؤسسات، من حيث وجود رئيس للبلاد وبرلمان ودستور، لكنّه افتقد الاستقرار الأمنيّ، وذلك مع بداية عمليات مسلحة من عدة تنظيمات تابعة لأفكار مختلفة، بعضها من تنظيم الدولة فيما يُعرف بولاية سيناء، وأنصار بيت المقدس، وأُخرى ناشئة تابعة لجماعة الإخوان، مثل حسم ولواء الثورة وغيرها، ما أدى إلى خروج التشويه من عباءة الإخوان إلى شمول تلك التنظيمات التي تحمل في طيّاتها الفكر السلفيّ الجهاديّ، فبدأ الحديث الإعلامي في مناقشة مدى صحة فتاوى قديمة لابن تيميّة، ونقض أفكار كتاب معالم في الطريق لسيد قُطب، بما أنّه كتاب مُضلل، فضلاً عن نقاش ما تستند إليه تلك الجماعات المسلحة في حربها ضد الدولة من أفكارٍ، وذلك بواسطة المؤسسات الإعلامية، من خلال المقالات والبرامج، وحتى في مسلسلات رمضان، كما كان في مسلسل الاختيار بجزئيّه الأول والثاني.
أيضاً، منذ بداية عام 2017، اندلع اشتباك آخر بين الدولة وبين الاتجاه الديني الرسمي في البلاد، المؤسسي، الذي يمثّله الأزهر الشريف وشيخه الإمام أحمد الطيب، فتجد الرئيس السيسي في أحد مؤتمراته يقول للطيب "تعبتني يا فضيلة الإمام"، حول جدالهم عن مدى صحة الطلاق الشفهي. أيضاً في مناظرة الطيب مع رئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد الخشت، في يناير/كانون الثاني عام 2020، دافع الأول عن التراث بشراسة جادّة، وقد بُهِتَ الخشت يومها، حتى ذاع عن الطيب بعد ذلك اليوم أنّه المدافع الأول عن التراث في العالم الإسلامي، واقفاً بحجّته شامخاً ضد مُريدي التنوير وناقدي التراث أمثال الخشت وغيرهم في مصر والعالم العربي.
السلفية الدعوية
يعتبر محمد حسين يعقوب وغيره كمحمد حسّان وأبو إسحاق الحويني من أشهر رموز السلفية التقليديّة أو العلميّة، حيث تدرجوا منذ بداية الثمانينات في الدعوة والخطابة من الزوايا الصغيرة إلى المساجد الكبيرة، وصولاً إلى البرامج التلفزيونية التي يشاهدها الملايين من المسلمين والعرب حول العالم، لمع هذا الاتجاه السلفي الوعظي، أو ما يُعرف بالصحوة، بفضل دعم السلفية السعودية فكرياً ولوجيستيّاً له.
بقيَ هذا الصعود مستمراً وناصعاً، الصعود المُقتصر على الوعظ -بعيداً عن السياسة- في قضايا تعبّدية وأخلاقية مثل الصلاة، والذكر، ولباس المرأة، والمعاملات بين الناس وغير ذلك، حتى جاءت ثورة يناير/كانون الثاني، وشهد الفضاء العام صعود الإسلاميين الحركيين مثل الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية والجبهة السلفية، ما أدى إلى نزول السلفية التقليدية سالفة الذكر إلى الساحة السياسية، فأسست الأحزاب، وشاركت في الانتخابات النيابيّة، واعتبرت استفتاء الدستور (استفتاء مارس/آذار 2011) غزوة ضد العلمانيين. وتداخلت كافة المنابر الوعظية بالحياة السياسيّة.
14 أغسطس/آب 2013، وهو يوم فضّ اعتصام رابعة العدوية، كان آخر المحطات السياسية بالنسبة للشيوخ، لاسيّما يعقوب وحسان والحويني، حيث استنكروا سقوط أرواح المسلمين يومها، ولاموا جنود الجيش والشرطة على استباحتهم دماء المُعتصمين. بعد ذلك عاد الشيوخ إلى الوعظ مرّة أُخرى، ولكن في حدودٍ ضيقة، حيث أَغلق نظام ما بعد يوليو/تموز 2013 القنوات الدينية التي كانوا يُحدثون الناس من خلالها، مثل قناة الناس والرحمة والحافظ، وأصبح اليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي منبراً جديداً لهم، يخاطبون به مريديهم وفئاتٍ اجتماعية أُخرى من جديد عن الوعظ والعبادة.
حتى جاء يوم حضور يعقوب إلى المحكمة، تشعّب القاضي معه في الأسئلة، وكأن الثاني طالب للماجستير يناقش أستاذه في ترقّبٍ من أجوبته، لعدم إساءة الفهم، ومن ثمَّ بعد ذلك تصدر نتيجة لا يرجوها. سأله القاضي عن تعريف السلفية؟ وهل هو سلفي؟ وما رأيه في سيد قطب، وكتابه معالم في الطريق، والظلال القرآني؟ ووجوب قتال الفئة الممتنعة -الحاكمة- عن تطبيق شرع الله؟ ومن هو الحاكم الشرعي ووليّ الأمر؟ وهل يوجد في وقتنا الحالي خليفة للمسلمين.
أجابه يعقوب، فلم يكن في بعض إجاباته حرج، فهو لم يتبرأ من السلفية أو يُدينها، قال عن أفكار قطب إنها ليس عليها دليل شرعي، وإن قطب ليس بعالم دين، ولم يتربّى على يد شيخ، بل هو أديب وشاعر، ولا علاقة له بالتفسير أو الاجتهاد، ربما يكون هذا بالفعل رأي يعقوب في قطب، فالأخير هو محل جدلٍ على مرّ العقود الفائتة، عن مدى دقة وصحة أفكاره، ومدى أحقّيته كشخصٍ في الاجتهاد وغير ذلك.
أما ما يؤخذ عن يعقوب فهو أنّه تبرأ من السياسة، وأنّه ليس بعالم، بل هو من المُتعلّمين العُباد، وهذا ما لا يتوافق مع سيرته ومَاضيه، فهو رجل سياسي قوي، ولكن دون ضرر، أي حسب سلطوية النظام القائم، فبعد الثورة كان يعقوب مُتفوها بالسياسة في كلّ شؤونها، ودعا إلى دستور إسلاميّ خالص، وشريعة قرآنية تحكم البلاد. أيضاً حديثه أنه ليس بعالم فهو منذ شبابه حتى شيخوخته كان على المنابر والشاشات، يُستفتى في أمر الدين من العوام بشأن الحلال والحرام والمُستحب والمكروه، في أمور الفقه والمعاملات الشخصية والأسرية وغير ذلك.
بعد بثّ الأسئلة والأجوبة على الرأي العام انتقد الكثيرون ما سمّوه تراجع وتخاذل يعقوب عن أفكاره ومحاضراته وخُطبه، هذا مفهوم بالتأكيد من استهزاء/تأييد/نقد ما قاله يعقوب. لكن بالتوازي، قامت حملة إعلامية رسمية من الإعلام المصري، وبعض الشيوخ المحسوبين على الدولة مثل أسامة الأزهري وخالد الجندي وغيرهم بالهجوم على تصريحات يعقوب، ووصفه بالمتناقض، أو التائب عن أفكاره السابقة، مسترجعين له شريط ذكرياته من الوعظ المُتشدد، إلى الدخول في السياسية وتأييد الإخوان المسلمين وغير ذلك، بالإضافة إلى تقديم عدّة بلاغات ضد يعقوب وحسّان لضمّهم إلى قوائم الإرهاب، ومنعهم من السفر بتهمة بث الأفكار المتطرفة في المجتمع.
كانت السلفية التقليدية بما لها وما عليها محطة أخيرة للإجبار على التَّتويب والاعتذار عن الأفكار والمواقف التي ربما اتخذوها سابقاً، ولم ترضَ الدولة بها، فالدولة لا تنسى من يختلف عن نهجها، وإن كان هذا المختلف صامتاً ولا يتكلم، ولكنّها أيضاً تريد تدجينه واعتذاره، كما تفعل الدولة مع سجناء السلفية الجهادية والإخوان، فهي تلقي محاضرات التتويب في بعض الأحايين، وتريد الاعتذار دوماً، حتى وإن لم يترتب على هذا الاعتذار أي شيء. أيضاً أرادت من الأزهر الشريف في وقتٍ ما أن يتبع خُطاها ويتبنى خطابها الديني الغالب عليه التنوير المُتصوّف، وما زال الأزهر يجادل ويناقش ويحافظ على استقلاليّته بشكلٍ أو بآخر. فالنظام الحالي في مصر يحاول عبر ممارسة كافة أدواته المختلفة تدجين الحالة الدينية بتنوّعاتها المختلفة التي لا يرضى عنها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.