بين كلمة دبّابة التي تحيل بالضّرورة إلى مكان تقف فوقه تلك الآليّة العسكريّة، والتي تشير إلى الموت، وكلمة ميلاد التي تبشر بالحياة وتحيل إلى زمان يحدث فيه، ثلاث كلمات تشير إلى مكانين وزمان هي: تحت وشجرة وعيد، أيّ يمكن أن ندّعي أنّ عنوان رواية إبراهيم نصرالله "دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد" هو عنوان زمكانيّ، وتالياً نفهم أنّ المكان بطل من أبطال الرّواية، إن لم يكن البطل الأساس.
يمتدّ العنوان الطّويل نسبيّاً، امتداداً أفقيّاً يسمح بامتداد الأحداث على فترة طويلة تغطّيها الرّواية من تاريخ نضال الشّعب الفلسطينيّ. خمسة فصول تتوزّعها الرّواية: ليالي الأنس، ليالي الصّيّاد، ليالي الموت، ليالي الحقل، ليالي الميلاد. من حكايات الحبّ التي تبدأ مع نهاية الحرب العالميّة الأولى وعودة إسكندر عام 1942، وزواجه من مارتا الذي غدا أسطورة من أساطير المدينة، ومجيء المحتلّ ودوافع استيطانه وخلفيّاته النفسية والتاريخيّة، ثمّ امتداد الأبطال من خلال أولادهم وأحفادهم، انتهاء بالعصيان والحصار والنّصر، يوثّق إبراهيم نصرالله ما شهدته بيت ساحور الفلسطينيّة على امتداد خمسة وسبعين عاماً من الاحتلال.
قد تزعجك كثرة الأسماء حتى تكاد لا تفرّق بينها، بدءاً من إسكندر ومارتا، وزهيرة وإدوارد مروراً ببشارة وزيدان وماري وخليل وأم خليل والمحقق داود وجورج ومنير وأبوخليل وعمّة فاتن وميس ونبيل الخائن والكابتن داود وجنوده الكثر وانتهاء بالطّفلة رولا، لكن بعد أن تهبّ المدينة كلّها ستعي أنّ القصص التفصيليّة ليست إلّا تفاصيل تجعل من المسرح الحكائيّ مساحة قادرة على استيعاب شعب بأكمله، فالبطل الحقيقيّ هو المدينة بكلّ ما فيها.
لم يكن إبراهيم نصرالله وحده من اهتمّ بتوثيق ما حدث في بيت ساحور أثناء الانتفاضة، فالمخرج الفلسطينيّ عامر الشّوملي بالتّعاون مع المخرج الكنديّ بول كوان، عملا على توثيق العصيان المدنيّ أواخر الانتفاضة في فيلمه "المطلوبون الـ 18" والذي رشح لنيل جائزة أوسكار عن فئة الفيلم الأجنبيّ لعام 2016.[1] وهذا العمل لنصرالله هو ضمن ثلاثيّة الأجراس التي كتبها في مشروعه الوطنيّ الملهاة الفلسطينيّة، والتي ضمّت روايتين سابقتين عن الدّار العربيّة للعلوم "ناشرون"، ونالت جائزة كتارا عام 2020.
لم يكن المكان في الرّواية عنصراً من عناصر الدّيكور، فهو العنصر الأهمّ من عناصر تطوّر الأحداث، حتّى لتنصهر الشّخصيّات فيه، المكان هو من يملي على الشّخصيّات القيم التي توجّه أفعالها، فهي لا تحلم بمكان آخر، إنما تحلم بالمكان خالياً من كابوس وجود قيم الآخر الذي يقتل الحاضر ويحاصر حياتها. إذاً في بيت ساحور دبّابة تحاصرها وتمنع عنها الحياة وعلى هذا الأساس ينبني الصّراع. لكنّ هذا الحصار لا يمنع أهلها من حبّها والدّفاع عنها وخلق فرص متجدّدة للحياة فيها، بل ولا يمنع المهاجرين من حملة الجنسيّات أمثال جورج من العودة إليها والبقاء فيها. وهكذا فإن المكان الذي من المفترض أنّ وجود الإسرائيليّ فيه قد حوّله إلى سجن، أضحى المكان الحلم "حاملاً لنظرة شموليّة تتعدّى الواقع الذي تمثّله تلك الأمكنة لتصبح خزّاناً ممتلئاً بالخبرة"[2] وتنقسم الأفعال فيه إلى أفعال يصيّرها حبّه تحاول أن تصنع قدراً جميلاً من واقع موجع في تفاصيله اليوميّة، وأخرى يصيّرها كرهه، تحاول أن تحتلّه بكلّ ما أوتيت من بطش. وكلا القسمين يواجه الآخر بشراسة ترغب في الانتصار ومحو الآخر.
مقارنة بما كتب في الرّوايات العربيّة الحديثة عن المدن، خاصّة تلك الرّوايات التي تحدّثت عن المدن بعد أو خلال الحروب، المدن التي تختصر صورة وطن، تبدو بيت ساحور مدينة من نوع آخر، فلا حنين مرضيّاً يجمعها بأهلها، ولا مشاعر سلبيّة تربطهم بها، فهم لا يرغبون بغيرها، ولا اغتراب فيها أو دونيّة خلّفها مستعمر، إنما هي وفي أحلك أوقاتها أمانٌ مطلق يتمكّنون من التنقل فيها رغم الحصار ومنع التّجوّل بطرق سلسة وخفيّة تستعصي على فهم المحتلّ، ما يشير إلى أمرين: الأوّل كونها تمثّل المكان المغلق الاختياريّ، الذي يذكّر بكينونة الإنسان وعمقه، ولعلّ هذا يشبه اسمها بيت ساحور "فحين نتذكر البيت والحجرات فإنّنا نعلم أنّنا نكون داخل أنفسنا"[3] وهذا لو نظرنا إلى واقعها المحتلّ يخلق مفارقة نوعيّة، فهي لم تتحوّل بالنسبة إلى أبنائها إلى مكان للتشرذم والضّياع والألم، بل ظلّت الجرح الذي يحاولون تضميده. الأمر الثاني تلك الحميميّة التي يفتقدها الدّخيل رغم طول بقائه، ويعيشها المواطن رغم محاولات تقييده، فبيت ساحور ظلّت في الرّواية المكان المأساة بالنسبة إلى داود وجنوده، عانوا فيه من القلق والضّياع والسخرية فكأنهم أوجدوا فيها لأنفسهم كمحتلّين جحراً منغلقاً، يمكن النظر إلى المونولوج السّوداويّ الذي ظالما حدّث به الكابتن داود نفسه، والذي يختصر حال اليهود المحتلّين الذين باتت فلسطين بيتاً لعزلتهم عن العالم، إذ مارسوا فيها أشكالاً لا حصر لها من اللاتحضر والعنصريّة غير المبرّرة. يؤكّد ذلك أنّ المكان حين ينفتح على الشّوارع أو السّاحات العامّة، تراه يبقي على أمان الفلسطينيين، بينما يخنق الجنود وقائدهم في دوّامة من القلق والغضب.
هكذا تغدو بيت ساحور مسرحاً لقضيّة أكبر من حدودها الجغرافيّة، إذ هي فضاء لقضيّة وطن محتلّ، يتصارع فوقها الخير والشّر، فريق يراها مسرحاً للرّعب، فيبطش بأهلها، هي ليست عنده إلّا شبحاً لأحلام أجداده الذين جاءوا محتلّين (داود وجدّه) وفريق يراها أرض ميعاده وجنّته (إسكندر وأولاده وأهل المدينة)، وبذا تغدو المدينة مسرحاً لأزمة إنسانيّة تبحث عن حلّ في ضمير البشريّة، هكذا تعبر الزّمن لتتصل بالمعنى الوجوديّ الإنسانيّ المتعلّق بالحقّ والخير والجمال والحريّة والعدالة، كمعانٍ إنسانيّة عامّة يستحقها جميع البشر على اختلافهم.
يتوازى نموّ الشّخصيّات أفقيّاً مع نموّ المدينة؛ كشخصيّة إسكندر الذي ظهر له عبر فصول الرّواية أولاد وأحفاد وجيران وأصدقاء ناضلوا وضربوا وسجنوا أحبّوا وتزوّجوا وقاوموا المحتلّ بطرق مختلفة، كمدينته بتفاصيل أيّامها مع الاحتلال، والتي يعبرها الزمن بسلاسة كأنّه عنصر خفيّ وخفيف لا يهتمّ إليه أيّ من الموجودين، لا أهلها ولا محتلّوهم. يشير هذا بدوره إلى ثبات الذّات مقابل تذبذب الآخر، ففيما تعبر بيت ساحور الزّمن، بما تشهده من قسوة محتلّها، ويعبره أهلها معها من دون أن يميت فيهم شعلة حبّها، هي تقف ساعتها لموقف أيديولوجيّ وجوديّ، هو موقف الكاتب وإحدى رسائله في الرّواية: نحن هنا والآن.. وباقون.
حرص نصرالله على توصيف توبوغرافيّ للمكان، فذكر أسماء الأحياء كتلّ الزّعتر، كما حرص على توثيق ما حصل في حصار بيت ساحور حين رفض الأهالي دفع الضّرائب، ووثّق حكاية البقرات التي أخفاها أهل المدينة عن القيادة العسكريّة في محاولتهم الاكتفاء الذّاتيّ ورفض المنتج الإسرائيليّ، فأين اختلف ما كتبه عن أيّ توثيق صحفيّ؟
إنّ في تصوير المكان بما هو الإنسان محاولة لحفظ كينونتهما معاً، وفي عبور الزّمن للأحداث بصفة وهميّة أو غير محدّدة رغم معرفة الفترة التي تجري فيها أحداث الرّواية إذ هي موجودة في سياق تاريخيّ معروف، محاولة للهرب من الإطار التوثيقيّ، كما أنّ انتهاء الأحداث بالموسيقى يسمح بتخيّل أزمنة أبعد ويفتح طاقة على الآتي، وهذا ما لا يمكن للتوثيق أن يفعله، إذ إنّ مهمّته حصر الحاصل وتحديده، لذا يمكن القول إنّ نصرالله قد أفلت من الوقوع في التوثيق حين جعل القصّة معيشة في أيّ فعل مقاوم لأبناء المدينة، نابع من حبّ الحياة لا من الخوف من المحتلّ، كما من كلّ فعل حياة مغاير للحاصل، يجعل اللامعقول في مثل تلك الظروف يبدو طبيعيّاً ومألوفاً، وما انتهاء الرّواية بعزف مارتا رغم تقدّمها في العمر، إلّا خروج عن المألوف وهذا ما يفعله العمل الفنيّ. وقد استطاع نصرالله بذلك أن يدمج بين الزّمن النّفسيّ أو الدّاخليّ المرتبط بالشّخصيّات وبين الزّمن الخارجيّ المرتبط بالأحداث، وهذا أيضاً لا يفعله التوثيق.
استطاع نصرالله أن يحبك قصته، مستعيناً بما بات يتقنه من تقنيات السّرد التي تمثلت بالاختصار أحياناً، والقفز أو إبطاء السّرد بالحوار أو الوصف فقد تضافرت جميعاً لخلق عمل متكامل، رغم صعوبة المهمّة، وإمكانيّة انسراب الحكاية لجهة طول المدّة التي تغطّيها.
قد نقرأ في بعض الرّوايات التي ارتكزت إلى حدث تاريخيّ أو شخصيّة تاريخيّة معروفة، كما في أعمال أمين معلوف، محاولات لجمع التناقضات الحضاريّة وفتح حوارات ثقافيّة حول الهويّة، كما نجد مزجاً بين الخيال والواقع والذاكرة، لكنّنا في رواية دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد، أمام عمل همّه وهو يحكي ملهاة شعبه ألّا تتوقف الأجراس، أن يتحوّل الألم الذي وثّقته الكاميرات إلى أمل، قادر على العبور باللحظة التاريخيّة الصّعبة إلى مآل من نوع آخر… ربّما يشبه الموسيقى لا يمكن احتجازها من قبل دبّابة عاجزة تقف تحت شجرة الميلاد. وما فصول الرّواية الخمسة أو كلمات عنوانها الخمسة إلّا محاولة للقبض على الواقع من أجل تحريره وتغييره.[4]
[1] https://www.aljazeera.net/
[2] باشلار.
[3] عن بوعزّة ص 106، في دراسة بعنوان تجلّيات المكان المأساوي في رواية دمية النّار لبشير مفتي.
[4] العدد خمسة مرتبط في علم الأرقام بالتغيير.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.