ثمة هواجس لاحقت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ومراكز البحث الإسرائيلية منذ عام 1948، وفي مقدمتها الهاجس الديموغرافي بفعل الزيادة الطبيعية العالية بين العرب الفلسطينيين، ناهيك عن استمرار الكفاح الوطني الفلسطيني بوسائل مختلفة لمواجهة سياسات إسرائيل العنصرية التي طالت الحجر والبشر على امتداد الوطن الفلسطيني وفي الشتات القسري؛ في وقت يعاني فيه التجمع الاستيطاني الإسرائيلي من تناقضات ثقافية وفكرية واجتماعية نظراً لأنه يتشكل من مهاجرين يهود تمّ استجلابهم من أكثر من 120 دولة من جهات الأرض الأربع. ولهذا عقد معهد الأمن القومي الإسرائيلي للدراسات الاستراتيجية منذ عام 2000 تسعة عشر مؤتمراً بغية فحص مناعة دولة الاحتلال الإسرائيلي على المستوى الداخلي والخارجي.
الديموغرافيا والعنصرية المتفاقمة
إضافة إلى العنصرية الإسرائيلية المتفاقمة والمتوحشة إزاء الفلسطينيين في أنحاء فلسطين التاريخية؛ يلحظ المتابع أنه منذ إنشاء (إسرائيل) في عام 1948، لم يتبوأ اليهود الشرقيون مناصب رئيسة في المؤسسات الإسرائيلية المختلفة، خاصة منصب رئيس الوزراء، على أساس أن بناة دولة الاحتلال الأوائل هم اليهود الغربيون (الأشكناز)، وثمة شواهد عنصرية أخرى داخل التجمع الاستيطاني الإسرائيلي، ومنها رفض تبرع يهود الفلاشا من أصول إثيوبية بالدم لصناديق التبرع قبل أكثر من عقدين من الزمن.
بلغ عدد سكان إسرائيل خلال العام الحالي 2021 تسعة ملايين و327 ألف نسمة؛ ثمة ستة ملايين و894 ألفاً منهم يشكلون التجمع الاستيطاني اليهودي داخل فلسطين التاريخية بما فيها المستوطنات القائمة في الضفة الغربية بما فيها القدس. وتصل نسبة اليهود الأشكناز 40% من مجموع اليهود في إسرائيل؛ في حين تصل نسبة اليهود السفارديم من أصول شرقية إفريقية وآسيوية إلى 36% من مجموع اليهود في إسرائيل خلال العام الحالي، وفي مقابل ذلك يشكل يهود الصابرا 24%، وهم اليهود الموجودون في إسرائيل وينحدرون من أب يهودي مولود في فلسطين قبل عام 48.
وفي الوقت الذي تتفاقم فيه عنصرية (إسرائيل) وعنجهيتها، ثمة أسئلة واقعية تبرز إلى الأمام بقوة عن مكامن القوة والضعف في التجمع الاستيطاني الإسرائيلي، وتالياً مستقبل دولة الاحتلال كدولة أبارتايد، وقد أجاب عن تلك الأسئلة عدد من المفكرين الإسرائيليين والعرب. وفي هذا السياق أكد المفكر المؤرخ الإسرائيلي بني موريس في أكثر من لقاء صحفي خلال السنوات الأخيرة أنه "لا يرى مخرجاً لـ(إسرائيل)، بسبب عدم وجود فرص في البقاء "دولة يهودية"، نظراً لأن العرب أكثر من اليهود بين البحر الأبيض المتوسط والأردن، وستصبح الأرض بأكملها حتماً دولة واحدة ذات أغلبية عربية، وأشار إلى أن (إسرائيل) لا تزال تدعو نفسها دولة يهودية، مستدركاً: "لكن حكمنا لشعب محتل بلا حقوق ليس وضعاً يمكن أن يدوم في القرن الحادي والعشرين، في العالم الحديث".
فوبيا المستقبل
لم تكن أقوال المؤرخ اليهودي الإسرائيلي "بني مورس" وغيره من المفكرين الإسرائيليين عن مستقبل (إسرائيل)، أثارت بعض الأعمال الدرامية الإسرائيلية -ومنها الفيلم السينمائي الذي حمل عنوان "2048"- ذعر الإسرائيليين، خاصة المهاجرين الجدد من الصهاينة، وجعلهم يفكرون في النهاية المتوقعة لدولتهم، إذ تحدث الفيلم قبل عدة سنوات عن نهاية (إسرائيل) وزوالها من الوجود، وهو الهاجس الذي يطارد كل مستوطن إسرائيلي.
وقال مخرج الفيلم (وهو يحمل الجنسية الإسرائيلية، ويدعى كفتوري) لصحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية: "أشعر بأننا نسير في الاتجاه الخطأ ونهدد بتدمير (إسرائيل)، وهذا لا يأتي بموجب تهديد خارجي، بل من الداخل"، لأنه لاحظ وجود تناقضات كبيرة داخل التجمع الاستيطاني الإسرائيلي، الذي يضم مجموعات يهودية غير متجانسة تعود أصولهم إلى أكثر من 120 دولة في العالم، ويمكن الجزم بأن هناك تناقضات جوهرية داخل التجمع الاستيطاني الإسرائيلي ستدفع إلى الاعتقاد بزوال (إسرائيل) بعد انتهاء دورها الوظيفي؛ في وقت يستمر فيه الكفاح الوطني الفلسطيني بكافة أشكاله لدحر الاحتلال وإعادة الحقوق للشعب الفلسطيني.
وثمة تقارير دورية تصدر عن وكالة الاستخبارات الأمريكية تتنبأ بأفول (إسرائيل) كما تنبأت في السابق بسقوط الاتحاد السوفييتي السابق ودولة الأبرتايد في جنوب إفريقيا؛ وتستند تقارير وكالة الاستخبارات الأمريكية إلى حقائق، في مقدمتها عنصرية (إسرائيل) المتفاقمة وعدم قدرتها على الاستمرار وسط أكثرية عربية داخل فلسطين ومحيطها العربي الكثيف؛ وقد يعزز هذا الاتجاه استمرار (إسرائيل) كدولة أبارتايد على حساب الشعب الفلسطيني ووطنه فلسطين.
يواجه التجمع الاستيطاني التهويدي داخل فلسطين التاريخية تناقضات جمة، لها علاقة ببنيته الاجتماعية وصولاً إلى تعريف من هو اليهودي أصلاً، في وقت اتضحت فيه صورة إسرائيل العنصرية، وخاصة خلال هبة الاقصى الرمضانية المستمرة بمفاعيل مختلفة؛ حيث ترسخت وحدة الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية والمهاجر القريبة والبعيدة من فلسطين لمواجهة سياسات دولة الاحتلال التهويدية الإجلائية، وخاصة في مدينة القدس وأحيائها المختلفة.
واللافت أنه كان لشباب فلسطين والمناصرين العرب والأجانب للقضية الفلسطينية دوراً حاسماً ومحورياً في المواجهة مع المحتل الصهيوني، وقد تمكنوا من توضيح وحشية إسرائيل وعنصريتها إزاء الشعب الفلسطيني؛ من خلال امتلاك ناصية العلم والمعرفة وتالياً استخدام وسائل السوشيال ميديا لخدمة القضية الفلسطينية، ليصبح الانزياح الشعبي لها في العديد من دول العالم، وقد يؤسس ذلك لضغط متزايد على الدول الغربية الداعمة لإسرائيل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.