تثار في المغرب تساؤلات عدة حول دلالات زيارة إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إلى المغرب، فتوقيت هذه الزيارة، الذي أعقب الانتصار السياسي والعسكري والإعلامي الذي حققته المقاومة، وتزامن مع سقوط حكومة نتنياهو وتنصيب حكومة بينيت، يؤشر إلى أن هذه الزيارة ليست عادية.
في المعلن، جاءت هذه الزيارة بدعوة من حزب العدالة والتنمية المغربي، وأن الحزب حاول ترتيبها منذ ستة أشهر ماضية، لكن أجندة اللقاءات التي تم الإعلان عنها، تشير إلى أن السيد إسماعيل هنية سيلتقي رئيسي مجلس النواب ومجلس المستشارين (المؤسسة التشريعية)، كما سيلتقي بقادة الأحزاب السياسية، ولم يتم لحد الآن، الإعلان عن أي لقاء مفترض بينه وبين مسؤولين في الدولة.
السوابق الماضية تشير إلى استحالة أن تتم هذه الزيارة بدون تأشير من أعلى هرم في الدولة، والسلوك الذي اعتاده حزب العدالة والتنمية أن يتم الاستشارة مع وزارة الخارجية بهذا الخصوص، قبل الإقدام على أي خطوة من هذا النوع، ومن ذلك الدعوة السابقة لرئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل لحضور فعاليات المؤتمر السابع لحزب العدالة والتنمية بالرباط سنة 2012، ثم زيارته له أيضاً سنة 2017، فقد كانت أجندة خالد مشعل في المغرب مطابقة تماماً لما تم الإعلان عنه في أجندة إسماعيل هنية في الاتصال بالنخب السياسية المغربية.
ثمة ثلاثة مؤشرات تبين أن هذه الزيارة تتعدى كونها مجرد استجابة لدعوة حزب:
أولها: أن توقيتها من غير اعتبار لدور مغربي مرتقب في التسوية، ليس فيه أي مكسب بالنسبة لحركة حماس، فهذه الحركة لم تخفِ انتقادها لحزب العدالة والتنمية، وللاتفاق الثلاثي الذي وقعه رئيس الحكومة السيد سعد الدين العثماني، وربما الذي سيكسب منها أكثر هو العدالة والتنمية، الذي سيمسح صورة التطبيع التي التصقت به، ويعزز اصطفافه إلى جانب المقاومة، وهو ما لا يمكن تصوره بالنسبة لحركة حماس، التي صارت تخضع تحركاتها الخارجية لحسابات دقيقة.
الثاني: أن زيارة وفد حماس إلى المغرب من غير اعتبار دور مفترض للرباط كوسيط في التفاوض بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي سيضعها في حالة حرج مع الدولة العبرية.
الثالث: أن هذه الزيارة تأتي عقب سقوط حكومة نتنياهو، وتنصيب حكومة نفتالي بينيت، واحتفاء واشنطن بهذه الحكومة، ووضعها كثيراً من الأمل عليها لتحريك عجلة التسوية، وطيّ الصفحة الكئيبة لتوتر أمريكي – إسرائيلي ساهم في تأجيجه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو.
البعض استبق هذه المؤشرات، وحاول أن يقرأ الموقف المغربي الرسمي من زيارة إسماعيل هنية من زاوية خصوصية السياسة الخارجية المغربية في التعامل مع القضية الفلسطينية، وأن خطوة التطبيع التي أقدم عليها تسير بشكل متوازن مع موقفه الثابت إزاء الحقوق الفلسطينية، وأنه في الوقت الذي هنأ فيه الملك محمد السادس بينيت على انتخابه رئيساً لوزراء إسرائيل، فقد سمح بزيارة وفد حماس إلى المغرب، وأن هذا التوازن هو ما يطبع الرؤية المغربية.
والواقع أن هذا التفسير صحيح، لكن الغائب فيه شيئان مهمان، أولهما، أن هذه التهنئة تم الرد عليها من قِبَل رئيس الوزراء الإسرائيلي بالتعهد بالعمل على تطوير العلاقات بين المغرب والدولة العبرية في كل المجالات، والثاني، أن الرسالة الملكية والرد الإسرائيلي عليها، تضمنا معاً حديثاً عن السلام، بل تحدثت رسالة رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد عن مساعي المغرب الرامية للدفع قدماً بالسلام والأمن في المنطقة.
ما يعزز هذه الفرضية أي وجود دور مغربي، كوسيط للتفاوض بين الطرف الفلسطيني والطرف الإسرائيلي، أن الدولة العبرية لم تعلق بشكل سلبي على زيارة هنية للمغرب، بل جاء رد رئيس الوزراء الإسرائيلي متضمناً لعبارات ودية للمغرب تؤمل دوره في التسوية.
منذ تولي الملك محمد السادس للحكم بالمغرب، لم تكن عين الرباط مفتوحة على أي دور في تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، وقد كان ما يبرر ذلك هو الفترة الطويلة التي قضاها نتنياهو في الحكم، ووجود تقدير مغربي بأن أي تسوية لن تكون ممكنة في عهده.
اليوم، ربما تغير هذا التقدير، فواشنطن التي أخرجت قضية الصراع العربي الإسرائيلي من أولوياتها، عادت فراجعت أوراقها وأعادت ترتيب أولوياتها من جديد، لتدخل هذه الأولوية إلى توجهاتها الكبرى في السياسة الخارجية، ولعل الحرج الشديد الذي عانته لإقناع الطرف الإسرائيلي والفلسطيني بوقف إطلاق النار، أظهر لها الحاجة إلى وسطاء ذوي مصداقية، يضطلعون بدورهم في القيام بالوساطة بين الدولة العبرية وبين المقاومة الفلسطينية.
صحيح أن خبرة القاهرة كبيرة في هذا المجال، وصحيح أيضاً أن مساعيها لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة كانت واضحة، لكن، التعثرات التي أصابت دورها في مسار التفاوض بين المقاومة والدولة العبرية، فضلاً عن بروز مقاربة جديدة للمقاومة تركز على تثبيت الانتصار، ورفض جر حماس للمفاوضات في حكومة وحدة وطنية وفق شروط الرباعية، كل ذلك، ربما أقنع واشنطن بالحاجة إلى وسيط آخر، غير القاهرة، يضطلع بهذا الدور.
نستحضر في هذا الخصوص مؤشرين اثنين يؤكدان هذا الرهان في سلوك الإدارة الأمريكية؛ أولهما، أن مناورات الأسد الإفريقي في الصحراء المغربية شملت منطقة المحبس، بعد وقوع لغط كبير في هذا الموضوع، بين تأكيد رئيس الحكومة، ونفي البنتاغون، ثم تأكيد الملك محمد السادس بشكل رسمي ذلك، ثم حصول ذلك بالفعل على أرض الواقع.
والثاني، وهو الشكل الذي تعامل به الرئيس الأمريكي جو بايدن مع رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز الذي بشَّر الصحافة الإسبانية بلقاء مصيري سيجمعه به على هامش اجتماع قمة الحلف الأطلسي (الناتو)، للحديث عن الأزمة المغربية – الإسبانية، في الوقت الذي لم يحصل هذا اللقاء، وتم نقل لقطة لا تتعدى عشرين ثانية من حديث بين الرئيسين في ممر مقر الناتو.
هذان المؤشران يثبتان الميل الأمريكي للمغرب، الذي لا يفسره سوى الرهان على دوره في التسوية في الشرق الأوسط، والحاجة إلى أسلوب الرباط في إدارة التفاوض الهادئ، فقد أثبت المغرب من خلال دوره في الملف الليبي فعالية أسلوبه في إدارة التفاوض وتحقيقه لنتائج كبيرة.
ما يميز المغرب أنه بقي دائماً على خط الوفاء للحقوق الفلسطينية، وكان الأكثر تضامناً مع القدس، وتلبية لحاجات المقدسيين، بل كان الأكثر استثماراً في مشاريع إعمار القدس. وفي المقابل، فإن واشنطن تراهن على تحريك المغرب لارتباطاته بالدولة العبرية، للقيام بدور الوساطة، للخروج من المأزق التي وصلت إليه عملية السلام.
لحد الآن، حماس، لم تجرب أي دور مغربي في هذا الاتجاه، ولم يسبق لها أن جسرت علاقاتها مع مسؤولي الدولة المغربية، فقد بقيت علاقاتها محدودة بحزب العدالة والتنمية وبنسبة أقل بعض النخب السياسية، لكنها تدرك أن موقف المغرب مما يجري في القدس يخدم مصلحتها في التفاوض، وأن هذا هو الجانب الذي لم تقدم فيه القاهرة شيئاً كبيراً، وهو الجانب الذي يمكن أن يتخذه المغرب مدخله لاستعادة دوره كفاعل أساسي في تحريك عجلة التسوية في منطقة الشرق الأوسط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.