في شهر يونيو/حزيران الجاري نشرت صحيفة Financial Times البريطانية تقريراً عن عزم الإمارات العربية المتحدة تغيير استراتيجيتها في الشرق الأوسط من التدخل وتقديم الدعم العسكري للحلفاء مثلما فعلت مع الجنرال خليفة حفتر في ليبيا والمجلس الانتقالي في اليمن، لتعتمد بدلاً من ذلك على تقديم الدعم الاقتصادي والتوسط في النزاعات مثل النزاع بين السودان وإثيوبيا والتوتر بين الهند وباكستان. فضلاً عن إدارة قناة تواصل خلفية مع إيران والسعي للحد من التوترات الإماراتية مع تركيا.
وقد نقلت Financial Times عن مسؤول إماراتي قوله، "نريد أن نكون أصدقاء مع الجميع من إسرائيل إلى إيران". وسيُمثل هذا التغير حال حدوثه تخلياً عن نهج تبنته أبوظبي خلال آخر عشر سنوات عبر دعمها للأنظمة المضادة للربيع العربي.
دوافع تغيير سياسات أبوظبي
يأتي الحديث عن تغير في النهج الإماراتي في ظل التغيرات الإقليمية التي تلت وصول إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للحكم، ففي عهد سلفه دونالد ترامب تمكنت الإمارات من التسرب لدائرة القرار الأمريكي، وحرصت على استغلال مساحة الفراغ التي نتجت عن ضعف الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما حتى نهاية عهد ترامب.
تبنت أبوظبي مقاربة تعتمد على التدخل العسكري المباشر مثلما فعلت في اليمن، والتدخلات السياسية مثلما فعلت في مصر، وتمويل أحد أطراف النزاع والحروب الداخلية مثلما حدث في ليبيا. ولكن مع رحيل إدارة ترامب تغير الظرف الدولي الذي أتاح تمدد أبوظبي مما دفع لانكماش تأثيرها ودورها الإقليمي.
كما أن العديد من المناطق التي انخرطت فيها الإمارات بمغامرات هي مناطق عجز عن البقاء فيها دول استعمارية كبرى، لأنها مناطق تستنزف القدرات والموارد دون التمكن من تحقيق نتائج مستدامة مثل اليمن التي أعلنت الإمارات سحب قواتها العسكرية منها في عام 2019، وليبيا التي تتنافس فيها عدة قوى دولية وإقليمية مثل روسيا وفرنسا وإيطاليا وتركيا ومصر.
وقد ساهم التدخل التركي بليبيا عام 2019 لدعم حكومة الوفاق في الدفاع عن طرابلس والتصدي لهجوم حفتر في تحجيم مشروع الأخير، والقضاء على آماله في بسط نفوذه على كامل التراب الليبي. كما تعرضت الإمارات للإبعاد من الصومال وجيبوتي في ظل تخوف حكومتي البلدين من تدخل أبوظبي في شؤونهما الداخلية، فضلاً عن تقارب حكومة الصومال مع تركيا.
وعلى المستوى الداخلي لا تملك الإمارات كدولة عمقاً استراتيجياً أو مقومات ديموغرافية تساعدها على التمدد خارجياً حيث لا يتجاوز عدد مواطنيها مليون نسمة، وفقاً لتقدير عام 2010، من بين قرابة 10 ملايين نسمة يقيمون على أراضيها، وتستورد الإمارات 85% من إمداداتها الغذائية من الخارج، فضلاً عن أن اقتصادها رغم امتلاكه لقدرات كبيرة فإنه يخضع للمتغيرات الخارجية، وهو ما يجعل المشاريع الاستراتيجية التي تبنى عليه تتسم بالهشاشة في مواجهة عمليات الاستنزاف المستمر ومتطلبات توسع النفوذ الخارجي. وقد ساهم تباطؤ الاقتصادي العالمي المصاحب لانتشار فيروس كورونا في تراجع الطلب على النفط وتراجع أسعاره، وهو ما انعكس سلباً على إيرادات الإمارات التي تحتل المركز السابع عالمياً في قائمة أكبر حائزي احتياطيات النفط والغاز الطبيعي.
خلافات عائلية
كذلك لدى الإمارات أزمة في مكوناتها الداخلية وغياب رؤية سياسية موحدة للدولة. فدستور الإمارات ينص على امتلاك كل إمارة من إماراتها السبع لثرواتها المحلية، وهو ما يعمق من الفجوة الاقتصادية بين الإمارات وبعضها البعض، ويجعل بعض الإمارات الفقيرة غير قادرة على تدبير الحد الأدنى من إيراداتها. فضلاً عن انخراط كل إمارة في مشاريع تنموية واقتصادية تغيب عنها مصالح الدولة الاتحادية. كما أن سياسات أبوظبي الخارجية لا تحظى بدعم راسخ من بقية إمارات الاتحاد، وهو ما سبق أن أكده راشد بن حمد الشرقي، نجل حاكم إمارة الفجيرة، عقب خروجه من الإمارات، حيث نقلت عنه صحيفة The New York Times الأمريكية، في 14 يوليو/تموز 2018 استياء حكام الإمارات الست الأخرى من أبوظبي بسبب عدم مشاورتها لهم قبل إرسال القوات الإماراتية إلى اليمن.
كذلك من المستجدات الهامة مؤخراً ما كشفته دورية Intelligence Online في عددها رقم 873 الصادر في 24 مارس/آذار 2021، عندما سلطت الضوء على خلافات عميقة على السلطة داخل أسرة آل نهيان الحاكمة لأبوظبي. وبالتحديد بين مستشار الأمن الوطني طحنون بن زايد، وخالد بن محمد آل نهيان، نجل ولي العهد، الذي يعده والده لتولي دور سياسي، في حين تشعر الدائرة المقربة من الأسرة بعدم الارتياح إزاء توليه هذا الدور.
وقد انعكست تلك الخلافات على فتح الأجهزة الأمنية التابعة لطحنون تحقيقات مع بعض المقربين لخالد بن محمد رئيس جهاز أمن الدولة، وفي مقدمتهم فيصل البناي الرئيس التنفيذي لشركة "إيدج" التي تعد أبرز شركة إماراتية في مجال الصناعات الدفاعية. وهو ما أدى إلى توقف برنامج تطوير طائرة محلية للاستخبارات والمراقبة والاستطلاع تشرف عليه الشركة عبر شركة "أكويلا" للطيران، حيث كان من المقرر تسليم الطائرة في وقت لاحق من العام الحالي. في رأيي، تمثل تلك الخلافات في الدائرة المقربة من محمد بن زايد تهديداً لاستمرارية المشروع الإماراتي المتمركز حول شخص محمد بن زايد.
في اعتقادي، تجتمع العوامل السابقة معاً لتجعل من خيار تغيير أبوظبي لاستراتيجياتها التدخلية العدوانية الخيار الأقل كلفة، لكنه بالمقابل سيضعف من مساحة نفوذ أبوظبي لصالح القوى الأخرى الإقليمية التقليدية مثل تركيا وإيران والسعودية. وتبرز تلك المستجدات كيف أن الدول الصغرى لا تقدر على مواصلة تبني استراتيجيات توسعية في ظل عوامل الهشاشة الداخلية التي تواجهها من قبيل محدودية عدد السكان، وضعف القدرة على تحمل خسائر عسكرية كبيرة، وتأثير اختلاف مصالح المكونات الداخلية والعائلات الحاكمة على السياسات الخارجية، وحساسية الاقتصاد المحلي تجاه أي هزات مالية عالمية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.