شدت انتباهي قصة احتلال جيش هتلر للعاصمة باريس في أقل من شهرين، والسبب وراء ذلك أنني ولأول مرة في قراءتي للتاريخ العالمي أنظر لقيمة الزمن وفاعليته في بناء الأمم. مدة قصيرة كانت كفيلة بتغيير وبعمق تاريخ فرنسا. لا أعلم كم استغرق الوقت لبناء الحضارة الأوروبية قاطبة، لكن ما فهمته واستخلصته أنه ما من تاريخ يقف عاجزاً أمام فواصله الزمنية.
إن المدقق في الذاكرة الإنسانية يجد أن النهاية محتومة في كل القصص ومن كل الزوايا وأن اللحظات وإن كانت جميلة أو مؤلمة في اختبارها لنا تمر في كل الأحوال وأن الزمن هو السبب المباشر في عدم ثقتنا التامة في دوام الحال. تلك الفكرة نفسها جيدة لأنها تجعلنا دائماً مستعدين لتغير الرياح التي تهب والتي تستوجب أن تكون أشرعة سفننا قوية وعالية.
الوقت أو الزمن وحده القادر على أن يغير كل شيء وأن يجعلنا أشخاصاً غير جديرين بالثقة أو في بعض الأحيان أشخاصاً ملمين بكل ما هو صحيح وملهم، قادر الزمن على أن يرفع من شأن البعض وأن يقربه من أحلامه وقادر أيضاً على أن يجعله يخسر كل شيء في لحظة الزمنية.
لقد أصبحت أؤمن وبعمق بأن شعور الإنسانية المتواصل بالعجز هو عرض لوقوفها صامتة أمام الزمن الذي يمضي، وشعورنا بالضعف هو إحكام القبضة الوهمية على اللحظة الراهنة التي تمر رغم إصرارنا.
بعد تجربتي القصيرة في الحياة أستطيع القول إنني بت أردد نفس الكلمات عن تجاربي السابقة التي مرت: "لو يعود الزمن إلى الوراء سأفعل ما يجب أن أفعل"، وها أنا أقف اليوم لا أعي جيداً ما أملك بل إنني غير راضية، أريد المزيد وأوهم نفسي أن حياتي الحقيقية تبدأ عندما تغدو أحلامي المستقبلية حقيقة.
ما جعلني الآن أتحدث عما عاصرته هو إيماني الشديد بأن تجربتي مشابهة لتجاربكم وهي التي أستطيع تلخيصها في شيئين، أولاً عدم اكتفائنا بما نملك كما يقول نعوم تشومسكي "العالم مصمم على السقوط نحو العدم"، وثانياً العجز المتواصل أمام الوقت الذي لم ولن نحكم قبضتنا عليه.
في المقابل لم أكن من الداعمين دوماَ لنظرية الوقوف والتأمل في اللحظات التي تمضي بل أجدني أدعم وبقوة الوقوف دوماً عند سقوطنا والمضي قدماً سواء كنا أمماً أو أفراداً، فريدريك نيتشه عندما قال: "نريد أن نعرف لماذا، لنعرف بماذا"، وهو نفس ما قالته المذيعة الشهيرة أوبرا وينفري بعد تجربتها القاسية مع مراوحات الزمن "سامح الماضي.. تحمل المسؤولية.. امض قدماً".
أنا لا أحاول الاجابة عن سؤال "ما هو الزمن؟" بل أحاول التشجيع على التحلي بالصبر والمثابرة وعدم تشبثنا لا بالزمان ولا حتى المكان، وأن نكف عن جشعنا المتواصل في قطار الحياة وصراخنا المتواصل كما يقول محمود درويش بأننا "نريد ما بعد المحطة".
أظن أن السبيل لإيقاف جنون البشرية هو قبولها مفهوم النهاية قبل البداية والتعايش مع التفاصيل بينهما، حان الوقت لقبول الخط الزمني والتريث في كل شيء وفهم أن لكل شيء أوانه، وأن من يعي جيداَ التوقيت المناسب هو من سيصنع مجداً، ومن يصنع الأمجاد لا نهاية له، حيث إنه يتجرد من الزمان ويدخل في مفهوم الخلود والأزلية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.