أجمع معظم الباحثين على أنَّ الحراك في الجزائر قد استوعب كل أطياف الشعب الجزائري، وكان الهدف الأول له هو تغيير الأوضاع التي آلت إليها البلاد، نتيجة الانسداد السياسي في العلاقة بين النظام والشعب. العملية السياسية في عهد بوتفليقة كانت عقيمة، وأهم مؤشر دلّ عليها وأغفله النظام السابق هو عزوف الشعب عن المشاركة السياسية مع كل مناسبة انتخابية، الأمر الذي أدى إلى الابتعاد عن النمط العادي للتعبير السياسي، والاصطفاف في مسيرات حاشدة لإسماع وتوصيل الصوت الحقيقي للمواطن للنظام والمجتمع الدولي، ذلك أن المواطن أصبح لا يثق في القنوات السياسية والاجتماعية، ولا يعتمد عليها في إيصال صوته.
رغم الانتقادات والسجالات التي طالت عملية إدارة المرحلة الانتقالية في الجزائر، بعد استقالة الرئيس بوتفليقة، فإن القوى السياسية في الجزائر اعتمدت على الترتيب الشكلي لها: "انتخابات رئاسية، تعديلات دستورية، انتخابات برلمانية" وأغفلت الضمني، وهنا نقصد التغيير الحقيقي "السياسات، البرامج، الوعود، الالتزامات، المحاسبة…"، بل إنها أغفلت أهم عامل للتغيير السياسي، وهو المشاركة السياسية.
تصريح الرئيس تبون للصحافة عقب أداء واجبه الانتخابي، وقوله بصريح العبارة "نسبة المشاركة لا تهمني" عقّد الأمور، وفجّر المشهد السياسي في الجزائر أكثر.
فقد تم فتح المجال للتجديد لقنوات التعبير السياسية والاجتماعية، إلا أن الساحة اكتسحتها قوى قديمة في عباءات جديدة، سواء بذات الوجوه أو نفس البرامج والسياسات. وظهور مجتمع مدني "جديد" متكون في حقيقة الأمر من وجوه الصف الثاني والثالث للأحزاب المرفوضة شعبياً، وبقايا نظام بوتفليقة على المستويين المحلي والوطني. ما زاد الطين بله فقدان الشعب ثقته في القوى السياسية التي تسيّر البلاد، بعد سوء إدارة الأزمات التي طالت الدولة، خصوصاً في ظل الأزمة الصحية الناتجة عن وباء كورونا، كما أسهمت الجائحة بشكل كبير في تغييب المواطن عن المشهد السياسي والعملية السياسية، بل عدم الاهتمام بها حتى، وهذا ما يمكن الاستدلال عليه من خلال نسبة المشاركة في الاستفتاء على التعديل الدستوري، للفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، حيث وصلت نسبة المشاركة فيه إلى 23.72%.
ذلك أن معظم الشعب اختار الابتعاد عن المشهد السياسي تماماً، وهناك مَن فضّل الاستمرار في الخروج في المسيرات، لنصبح أمام أزمة ضعف المشاركة السياسية، وهي ذلك الوضع الذي يتسم بعدم التوازن، وحالة من التوتر تؤثر على المجتمع والنظام السياسي، تختلف مظاهرها ومحدّداتها من بيئة لأخرى، نظراً لارتباطها بالعوامل الثقافية والاقتصادية وحتى الأمنية للدول. وتتطلب هذه الأزمة قرارات مستعجلة من أجل التخفيف من حدة الأزمة أو القضاء عليها، بإشراك جميع الأطراف المعنية بالأزمة، خاصة مشاركة الأغلبية التي تشكل في معظم الدول العربية فئة الشباب.
في الانتخابات التشريعية الجزائرية الأخيرة، جاءت نسبة المشاركة السياسية متدنية. تعتبر تلك الانتخابات مهمة؛ ذلك أنها ستأتي بالمؤسسة التشريعية والمنوطة الأولى بصناعة القوانين في البلاد، التي من شأنها خدمة المواطن من جهة، وتشكيل الحكومة المنتظر منها تجسيد برنامج ووعود الرئيس، لكن تصريح الرئيس تبون للصحافة عقب أداء واجبه الانتخابي، وقوله بصريح العبارة "نسبة المشاركة لا تهمني" عقّد الأمور، وفجّر المشهد السياسي في الجزائر أكثر، وبيّن أنه كمسؤول أول في البلاد لا يهتم بالأزمة السياسية ودلالاتها. نسبة مشاركة ضعيفة تعني برلماناً ضعيفاً وناقصَ الشرعية، وتبين أنه يحاول فقط إعادة تجديد وترتيب المؤسسات السياسية في شكلها، بعيداً عن شريحة كبيرة من الشعب الذي يمثل "مصدر السلطة".
للأسف هنا نجد أنفسنا في حلقة مفرغة؛ فالعامل الأول الذي أدى لتأزُّم الأوضاع وعُقم العمل السياسي في الجزائر بقِيَ هامشياً عند صنّاع القرار، الأمر الذي سيؤدي لتوسيع شريحة "حزب الكنبة" في الجزائر، وهو الوضع غير الصحي بالنسبة للانتقال الديمقراطي في الجزائر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.