استكمالاً لملف العلاقات الذي أعتبره من أهم الملفات التي يجب أن تساهم العلوم الاجتماعية في مساعدة إنسان العصر الحديث على إيجاد طرق جديدة ومسارات متنوعة لإنجاح علاقاته مع الآخرين، في ظل الانفتاح التكنولوجي الجديد، والتحديات التي يواجهها المجتمع للحفاظ على هويته في ظل أن العالم أصبح قرية صغيرة.
إن الإنسان خلق بطبيعته يميل إلى الحياة في مجتمعات وسط بشر يحبهم ويحبونه ويهتمون لأمره، وتكون لديه القدرة على تكوين شبكة علاقات مختلفة في عدة مجالات تسانده وتؤازره وقت احتياجه إليها، ولكن مع مراعاة قدرات الآخرين، وليس فقط وفق احتياجاته، بمعنى أن يستطيع الإنسان أن يعرف ما هو احتياجه من علاقاته، وأن يعبر عنها بوضوح ويعرف كيف يديرها.
بمعنى أن تتعرف على نفسك واحتياجاتها الحقيقية، وأن تتعرف على قدراتك الحقيقية أولاً، وأن تكون أميناً مع ذاتك فيما تقدمه أنت في العلاقة، وتلك هي الخطوة الأهم والأصعب في العلاقات "العطاء"، خصوصاً مع تلك النغمة السائدة حالياً، في الواقع وعلى مواقع التواصل، بالتشجيع على القيام بـ"دور الضحية" في العلاقات، وأن الآخر هو المتحكم في العلاقة وحدودها والأذى الناتج عنها.
يؤكد ستيفن أر كوفي في كتابه العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، الذي أعتبره من أفضل الكتب التي تناولت المسؤولية الذاتية للإنسان عن حياته، وأن يكون مبادراً في حياتة لا منطقة ردود أفعال، يقول إن هناك مبدأً أساسياً عن طبيعة الإنسان، هو أن "بين المؤثر (الحدث المحرك) والاستجابة مسافة، في هذه المسافة تكمن حريتنا".
ويستطرد فرانكل في كتابه المميز قائلاً: إن الأشخاص الانفعاليين، وأعتقد أن هذا المسمى هو الاسم الأفضل للشخصيات التي تعيش دور الضحية في الحياة، هؤلاء الشخصيات عندما يكون الجو صحواً يكون مزاجهم معتدلاً، وعندما يكون الجو ملبَّداً بالغيوم فإنه يؤثر على مزاجهم وسلوكياتهم، وأيضاً يتأثرون بالجو الاجتماعي، إنهم يكونون سعداء إذا أحسنت معاملتهم، وتعساء حين يتم تجاهلهم، مع مراعاة أنهم يفسرون الحدث وفقاً لرؤيتهم الخاصة، ويبني هؤلاء الأشخاص حياتهم العاطفية حول سلوكيات الآخرين، ما يعزز من قدرة الآخرين أياً كانوا مِن السيطرة عليهم.
ويستشهد في كتابة بتجربة الطبيب النفسي الشهير فرانكل في الاعتقال، حيث مات والداه وأخوه وزوجته في المعتقل، هلكت أسرته بالكامل عدا أخته، وتعرض هو نفسه للتعذيب، ولكن فرانكل تمسك بحقه وحريته في اختيار استجابة خاصة به وفق رؤيته الخاصة لهذا الحدث المؤلم؛ اختار أن يتخيل نفسه بعد أن يخرج وهو يشرح لتلاميذه الدروس التي تعلمها في المعتقل، وكتب فعلاً كتابه (بحث الرجال عن معنى)، الذي يستند فيه إلى أن القوة التحفيزية الأساسية للفرد هي العثور على معنى في هذه الحياة، ويستشهد أيضاً بقول غاندي: "لا يمكنهم أن يأخذوا منا احترامنا لأنفسنا ما لم نعطه نحن لهم"، ومقولة الرئيس الأمريكي روزفلت: "لا يمكن لشخص أن يجرحك دون موافقتك".
ويتابع الكاتب بأن ما يؤلمنا ليس الحدث في حد ذاته، ولكن موافقتنا على حدوثه أو سماحنا له بالتأثير علينا وتشكيل استجابتنا.
وأعلم تماماً أن هذا التحول في مسارات التفكير في المخ ليس هيناً، ولن يكون وليد اللحظة، بل سيكون نتاج جهد كبير، لأننا أمضينا سنوات طويلة نعيش بعقلية أننا نتاج الأحداث في حياتنا وأن مشاعرنا نتيجة تصرفات من حولنا، وأن المشاعر السلبية التي نشعر بها هي نتيجة الظروف أو سلوكيات الآخرين.
لذلك نجد أنه أحياناً يكون أصعب وأطول وقت أثناء الرحلة العلاجية، حين نبدأ في التوعية والبدء في برنامج مخطط ليتحمل العميل المسؤولية الذاتية عن تعافية، وتأكيد حقوقه وحدوده في العلاقات، وأن يصبح مبادراً لا فقط مجرد رد فعل، وأن يتحمل مسؤولية أفكاره ومشاعره ومعتقداته، وأن ينتقل من خانة الضحية إلى المسؤولية، وتتطلب تلك المرحلة الصبر والتحمل، لأن تلك المرحلة من أهم المراحل من وجهة نظري.
وأخطاء التفكير (التي ذكرتها في المقالتين السابقتين) هي أول مفسر للحدث، فعلينا أن نراقب أنفسنا حين نفسر الأحداث من حولنا، ونرى أولاً أي نظارة نرتديها أو أي طريقة تفكير نتخذها لتفسير الأحداث لأنها من أهم المؤثرات في تحديد طريقة استجابتنا، ودمتم مبادرين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.