أنظمة الحكم في العالم معقدة بشكل كبير؛ فهي متعددة ومتغيرة على مر العصور، فبعد قرون من الحروب في هذه الأرض بسبب هذه الأنظمة التي لا تتماشى مع بعضها، نشأ نظام سموه النظام "الديمقراطي"؛ وهو إشراك الجماهير المؤهلة على قدم المساواة في الحكم، فالديمقراطية بشكل أوسع هي نظام اجتماعي مميز يؤمن به ويسير عليه المجتمع، ويشير إلى ثقافةٍ سياسيّة وأخلاقية تتجلى فيها مفاهيم تتعلق بضرورة تداول السلطة سلمياً وبصورة دورية. وبالرغم من تعدد أشكال الديمقراطية اليوم في صور كثيرة أبرزها "الديمقراطية المباشرة والديمقراطية التمثيلية" إلا أن تاريخها الحديث في ليبيا جعل الليبيين لا يفهمون تفاصيلها وخلفايتها بالشكل الكامل؛ لأنها جاءت كردة فعل على الاستياء والتعسف في استعمال السلطة وبالانفراد بالحكم من قبل شخص واحد دام لأربعة عقود.
الديمقراطية في ظل الاستبداد الذي استمر أربعة عقود؟
إن ليبيا عاشت عالةً على مجتمعها ومثبطة لعزائم شبابها وشاباتها وحاصدةً لروح نهضتها وتقدمها، فمنذ الانقلاب العسكري سنة 1969 واستحواذ القذافي على الحكم تلاشت معالم الديمقراطية، بل إنها انعدمت مع انعدام حقوق المواطن الليبي المدنية. القذافي وفي فترة حكمه استطاع أن ينجح في فرض قبضته الأمنية والعسكرية وكان يقضي على كل صوت ينادي بحقوقه ويراه خطراً على حكمه، بل يصفه بالخيانة العظمى. وبعد حملات القتل والإعدام التي شنها النظام طوال فترة حكمه سكتت الأفواه وأنعمت الأعين عن المطالبة بحقوقهم، بل أصبح الليبيون يخافون أن يذكروا اسم القذافي على لسانهم حتى لا تصل إليهم رصاصته القاتلة التي لا تفرق بين كبير ولا صغير ولا رجل أو امرأة. و بالرغم من المقولة الشهيرة للقذافي "السلطة والثورة والسلاح في يد الشعب" إلا أنها كانت شعارات فضفاضة روج عليها لكبح جماح المواطن وجعله يعيش في عالم من الوهم المطلق ولضمان عدم تدخله في شؤون الدولة وانتقادها.
هل حظيت الديمقراطية في ليبيا بشعبٍ ذي ثقافة ديمقراطية بعد ثورة السابع عشر من فبراير/شباط؟
إن التجارب الأولى في عمر الشعوب دائماً تكون محفورة بالمشاكل والأخطاء؛ ومن هذا المنطلق فإن التجربة الديمقراطية في ليبيا بكل أنواعها دون قيود تشريعية لها جعلت الشعب لا يفهم أبجدياتها بالشكل المطلوب، بالرغم من حملات التوعية التي انطلقت بعد ثورة السابع عشر من فبراير/شباط التي تعزز قيم ومفاهيم الديمقراطية إلا أنها لم تصل لذروتها ومبتغاها حتى الآن، فبعد الثورة عاش كل الليبيين "شرقاً وغرباً وجنوباً" الديمقراطية بكل سلبياتها وإيجابياتها والفرحة تغمرهم؛ إذ إنهم أصبحوا يمارسون حقوقهم المدنية بعد اضطهاد وتهميش دام لعقود، حتى انطلقت عملية عسكرية شرق البلاد سنة 2014 تسببت في تغيير مفهوم الديمقراطية لدى الشعب الليبي؛ حيث التف بعضهم على من حكم شرق ليبيا بالنار والحديد وأصبحوا يرونه هو المنقذ ويجب تنصيبه حاكماً لليبيا حتى وإن كرر تجربة القذافي في تكميم الأفواه والاضطهاد وضرب بكل مفاهيم الديمقراطية عرض الحائط، والبعض الآخر ما زالوا متمسكين بما ثاروا من أجله سنة 2011 ولم يتنازلوا عن مبادئ الديمقراطية وحقوقهم التي يريدون ممارستها بعد أن سلبت منهم لسنوات.
و بالرغم من الاختيارات الخاطئة لهم؛ بداية من انتخابات المؤتمر الوطني سنة 2012 نهاية بانتخاب مجلس النواب سنة 2014 بسبب عدم التشبع بالثقافة الديمقراطية ومعرفة حقوقهم وواجباتهم إلا أن التنازل عن هذا الحق أصبح من المرفوضات، وخير دليل هو رفض هؤلاء لرجوع البلاد للعسكرة عندما شن خليفة حفتر حملته غير الشرعية على العاصمة طرابلس سنة 2019.
دور المجتمع المدني في ترسيخ مفهوم الديمقراطية والضغط على أنظمة الحكم
لعب المجتمع المدني دوراً مهماً في التوعية الديمقراطية، فمنذ سنة 2011 بدأت الحملات والدورات وورش العمل التي تعنى بهذا الشأن في ازدياد، ومع ذلك لم يتشبع الليبيون بهذه الثقافة بالشكل المطلوب للنضوج الفكري. المجتمع المدني رغم قلة إمكانياته إلا أنه كان السبب الرئيسي في غرس المفاهيم الديمقراطية في المواطن، ومع ذلك ما زلنا نطمح بأن يكون دوره أكبر حتى نستطيع أن نقول فعلاً بأن الليبيين قد وصلوا إلى ذروة فهم الديمقراطية وأصبحوا على قدر المسؤولية في تحمل واجباتهم وحقوقهم.
بعد كل هذه التجارب للشعب الليبي على مدى 10 سنوات تقريباً بات النضوج الفكري الجمعي جاهزاً لخوض تجربة ديمقراطية جديدة وأصبح جلهم يدركون أن الاختيار يجب أن يكون مبنياً على الكفاءات لا على المحاصصة القبلية، فالذي يأتي على أساس المحاصصة والقبيلة أو المال الفاسد لن يستطيع أن يقدم شيئاً، بل المستقر فكرياً والذي سينال شرعيته من الشعب سيكون أمام مسؤولية كبيرة أمام من أوصله للمنصب، ونحن اليوم على أعتاب انتخابات جديدة "برلمانية ورئاسية" سيعيش الليبيون تفاصيلها قريباً، ولزاماً عليهم أن يحسنوا الاختيار حتى نخرج من الحلقة المغلقة التي عشنا ويلاتها سنين خلت.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.