هذا الاقتراح يقرأ الواقع العربي ولا يدعي احتكار الحقيقة كما لا يهدف إلى الإساءة لأحد من الحكام وقدرت أن الوباء يفترض أن يقرب الجميع من الحقيقة.
فالحالة العربية في علاقة الحاكم بالمحكوم حالة مستعصية يسندها عشرات السنين من التراكمات السلبية بين الطرفين وتغذيها مجموعات من العوامل التي تجعل تراجع طرف انتصاراً للطرف الآخر، أي أنها أصبحت مباراة صفرية بين الحاكم والمحكوم، فالحاكم رتب أوضاعه على أساس رضى طرف ثالث عن نظامه، وأنه أطلق يده في الثروات وأعاد توزيع هذه الثروات على أساس مصالح النظام ومن يسانده وأهمل تنمية البلاد والنظر في مصالحها ومصالح شعبها، فانقسم كل بلد عربي إلى طبقتين؛ طبقة من السادة وهم الحكام ودائرتهم القريبة وهم يستولون على كل الامتيازات ويسخرون البلاد في سياساتها الداخلية والخارجية على أساس مصالحهم يساندهم طبقة المنتفعين والمسبحين بحمدهم والمساندين للوضع الراهن والكارهين لتغيير الأمر الواقع، بل والساعين إلى تكريسه وتوسيع المستفيدين منه حتى إذا اتسعت رقعة المستفيدين كان ذلك أدعى إلى قمع المهمشين، وهم الطبقة الأخرى المستعبدة والمستحمرة بالإعلام وبالقمع ونصيبها القهر والحرمان والفقر، وطبيعي في مثل هذه القراءة أن تكون مصالح البلاد الاستراتيجية في خدمة الطبقة الأولى ووفق رؤيتها، بحيث تنعدم الكفاءة وتنعدم العدالة وتضيع طاقات الأمة تقرباً لهذا الحاكم الذي امتلك البلاد والعباد، فلا يمكن الحديث عن سياسة خارجية أو رؤية في أي مجال أو قانون، فالقانون هو هوى الحاكم ومصالح المنتفعين، والمؤسسات تدار لصالح الحاكم وتتشكل من الموالين له، وإن جرت انتخابات فهي صورية وهدفها إضفاء شرعية شكلية على الحاكم الذي يستمد شرعيته من الخارج ومن المؤلفة قلوبهم بأرزاق الشعب وموارد البلاد من الداخل والخارج.
ولذلك يغدق الحاكم العربي على أتباعه باعتبارها عطايا مخصومة من حقوق الناس، وهي الطبقة المطحونة، فالقضاء قضاء الحاكم، والعطاء والمنع والحياة والموت بيد الحاكم، فلا مجال للحديث عن دولة أو استقلال أو سيادة أو عدالة أو قانون أو دستور، رغم أنه كلما اشتد بطش الحاكم، بالغ إعلامه في الحديث عن القانون والحقوق والحريات والاستقلال، والطريف أن جميع الحكام العرب مغرمون بنظرية المؤامرة، وأنهم وبلادهم مطمع للغريب الذي يريد الاستيلاء عليها، والحاكم هو الفارس الحامي للبلاد والعباد من هذه المؤامرة الخبيثة، وبعض الإعلام يصرح بلا حياء بأن واشنطن وإسرائيل هما رأس المؤامرة، علماً بأن أي حاكم عربي لا بد أن ترسمه أمريكا ولا تمانع إسرائيل في تعيينه، وهذا هو الحد الأدنى المطلق بالنسبة للحكام العرب، وقد رأينا نماذج صارخة من المباركة والتعيين المباشر في بعض الدول العربية، وإن لم يكن تعييناً مباشراً فهو إيعاز وإشارة لا يخطئها الحاكم.
وهكذا تشكل تاريخ الدول العربية طوال قرن كامل زف الحكام فيها للشعوب أنهم أصبحوا أحراراً من الاستعمار، وأن بلادهم أصبحت مستقله وأنهم أصبح لهم دولة وطنية حديثة، ولم تتردد الدساتير العربية في وصف نظمها بأنها نظم ديمقراطية تتمتع بكل خصائص الديمقراطية ودولة القانون، وإذا راجعت كل الدساتير العربية ستجد صياغات أكثر بلاغة من الدساتير الأوروبية، فإذا انخدع بعض القضاة السذج بهذه النصوص في دراساتهم، فإنهم يصدمون وهم على المنصة ووراءهم آية قرآنية كتبت بخط عريض، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. وهكذا توفر في المظهر شكل الدول والحكومات والدساتير والمؤسسات، ولكن في الواقع شيء آخر مناقض تماماً.
ثم جاءت العولمة ففتحت أبواباً أخرى للحقائق تناقض أباطيل الإعلام الرسمي الذي تخصص في استحمار الشعوب بعد مرحلة استعمارها وتبين للنخبة المستنيرة منها أن هذه الشعوب لا عقل لها، ولكن في لحظة معينة، وعندما كثر البلاء وتزاحم والحاكم العربي لا يرحم، فيجمع بين سرقة القوت والتجويع والأمراض وسوء الإدارة وانعدام الكفاءة والاستيلاء على كل المقدرات، والمراهنة على مكانة البلاد مقابل خدمات نظامه، وعدم تمكين النخب من إقامة الدولة الحديثة، فقد بدأ الشعب يشعر بوطأة هذه السياسات عندما بلغ السيل الزبى، فانفجرت الشعوب العربية تباعاً خلال عام 2011، ولكن الحكام العرب تعاونوا على إخماد هذه الفورات، وهكذا طرف يتمسك بالوضع الراهن المريح له والمهين للبلاد، وطرف آخر يعاني ويتمنى تغيير الأمر الواقع أو تغيير السياسات مع بقاء الحاكم، والنتيجة أن حلفاء الحاكم والمستفيدين لا يمكنون الشعوب من التغيير، ولا يمكن للحاكم أن يتطوع ويتحول طوعاً وهداية من حال إلى حال، كما أن الشعوب العربية تعاني من غياب العقل، وكما قال نزار قباني: هؤلاء المستبقرون عندما يبالغ الحاكم في سرقة القوت وفي الاستحمار، فإن هؤلاء الجموع تنفجر انفجاراً بيولوجياً وليس عقلياً طلباً للبقاء وليس طلباً للحرية فينهدم المعبد فوق رؤوس الجميع.
ولذلك استشعرت خطورة هذه الحالة العربية التي تؤدي إلى الاحتكاكات المستمرة بين الحاكم والمحكوم، وإلى مغالاة الحاكم في القهر الذي يولد طبقات وأجيالاً من الحانقين المنتقمين ويحرم البلاد من الطاقات الإيجابية التي تزدهر في أجواء الحرية والإخلاص للبلاد وليس الأفراد، وتبين لي أنه يستحيل تغيير الحاكم قسراً كما يستحيل تغيير الشعب بسبب الإرث الذي استمر آلاف السنين من التجهيل والإفقار والإمراض المتعمد، وعندما يعتقد الحاكم أن بقاءه سببه عجز المحكوم ومرضه وفقره وليس رضاه، فإن الحالة العربية ستنتهي بالقضاء على الوجود العربي نفسه حاكماً ومحكوماً، فهذه دائرة جهنمية تؤدي إلى الدمار.
فرأيت أن نقدم هذه القراءة الواقعية التي تعتبر مرآة صادقة لأوضاع العرب في هذه اللحظة، وأقترح ميثاقاً للمصالحة التاريخية بين الحاكم والمحكوم نتفادى فيها الانتقام وشهوة السلطة والاستحمار والاستعباد عند الحاكم والشعوب بالاستكبار على المحكوم، كما نتفادى انفجار المحكوم أو حتى ثورته، لأنها تكون ثورات للعبيد لا تبقي على شيء، فليس من مصلحة الحاكم أن تفنى البلاد، كما ليس من مصلحة المحكوم ذلك، فالمصلحة المشتركة هي أن تبقى البلاد ولكن ليس ملكاً للحاكم أو ملكاً للمحكوم في هذه المرحلة، وإنما يلتقي الحاكم والمحكوم في بعض الطريق بحيث يمكن للحاكم أن ينزل من كبريائه وغلوائه درجة لكي يلتقي مع رغبات المحكوم دون أن يسمع أناته وتضرعاته إلى الله بأن ينتقم من الحاكم، فلا شك أن كل حكام العرب تضرع شعوبهم إلى الله لإهلاكهم وأنهم يشعرون أنهم يحكمون شعوباً خرجت عن عبوديتها واستعلت على قيودها وتجرأت على حاكمها، والطريف أن نسمع أحد الدعاة يتحدث عن الحياء مع الحاكم ولم يتحدث عن حياء الحاكم مع المحكوم أو مع الله.
شروط المصالحة:
الشرط الأول أن يشعر الحاكم ويقتنع بأن الوطن ليس إرثاً لأسرته أو لقبيلته أو لطائفته أو لشلته، وأن الوطن ملك للجميع، ولكن هذا المعنى يتحقق بالتدريج، وإن كانت الدساتير العربية جميعاً تحفل بهذه الشعارات الكاذبة.
الشرط الثاني أن يدرك الحاكم أن تعيينه وبقاءه من الخارج يدفع الوطن مقابله، وأن المنافقين له ينهبون أموال الوطن للولاء الزائف له، ولذلك يجب على الحاكم أن يحصل على رضى شعبه عن طريق استثمار أبنائه وثرواته لصالح البلاد والعباد، وأن توجه هذه الأموال إلى الشعوب تحقيقاَ لمبدأ المواطنة وتحقيقه على أرض الواقع بعد أن ظل حتى الآن شعاراً تتغنى به الدساتير. ومعنى ذلك أن الحاكم لا يقطع صلته بالخارج، وإنما يغير طبيعة هذه الصلة بدلاً من أن يكون خادماً للخارج فيتحول إلى خادم لوطنه وسيد لشعبه، لأن خير القوم خادمهم، وأن يتدبر في كل تصرف هل هو للصالح الشخصي أم للصالح العام.
أعلم أن هذا التحول يحتاج إلى تدريب نفسي، ولكني أنصح بالإسراع في هذا التحول حتى لا تفنى الأوطان وتتوحش الشعوب وتلحق بالحكام المهانة التي لا نرضاها لهم.
الشرط الثالث أن يشكل الحاكم مجموعة من الشخصيات التي تقبل هذا الميثاق والمدركة لمخاطر عدم الاتفاق، وأن المعادلة الصفرية مآلها إما استمرار هيمنة الحاكم أو انفجار الشعب ومطاردة الحاكم والانتقام منه ومن رموزه وتخلي الخارج عنه، لكي يستعبد حاكماً جديداً يصنعه على عينه، فلا يتمسك السيد الغربي بشخص معين، وإنما يصنع من يخدمه ويخدم مصالحه أياً كان لونه أو جنسه أو اتجاهه.
ومعنى ذلك أن الحاكم العربي يبرم ميثاقاً مع هذه الجماعة التي اختارها ويدقق في معايير الاختيار بحيث لا ينتمي إلى تقسيمات داخلية، وإنما تنتمي إلى عموم الوطن وتضع هذه الجماعة مع الحاكم ميثاقاً جديداً أو دستوراً تنشأ به الدولة وتعمل في إطاره المؤسسات وتوضع فيه قواعد إدارة الدول الحديثة، وألا ينطلق الخيال بالطرفين إلى إنشاء ديمقراطية كاملة فوراً وإنما يتخلى الحاكم عن بعض صلاحياته لكي تمارسها المؤسسات المنتخبة، وذلك بعد مضي عدة سنوات من التوعية الصحيحة والإعلام البناء.
وسوف نتابع ضمانات معالجة الوضع بحيث ننزع فتيل الانفجار الشعبي، ومخاطر فناء الوطن، وحفظ كرامة الحاكم العربي، لأنه في النهاية جزء من هذا الشعب.
وأرجو أن تكون قراءتي مبالغاً فيها، بل أتمنى أن تكون خاطئة، ولكن المؤكد أن هناك مشكلة في علاقة الحاكم بالمحكوم تتطلب تدخل النخب المخلصة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.