على مدار الثماني سنوات الأخيرة، ارتبط اسم محافظة "شمال سيناء" المصرية بالمواجهات العنيفة التي دارت في مدنها وصحاريها بين الجيش والشرطة المصريين من طرف، وبعض الجماعات المسلحة من طرف آخر.
تلك المواجهات كانت لها انعكاسات خطرة على أوضاع المواطنين الذين عاشوا ظروفاً مأساوية تضمنت تهجير القاطنين على الشريط الحدودي بين مصر وقطاع غزة بحجة القضاء على التهريب عبر الأنفاق، وتجريف العديد من المناطق الزراعية خشية استعمال المسلحين لها كمخابئ، فضلاً عن منع دخول الدراجات النارية وقطع الغيار الخاصة بها إلى سيناء، وتقييد حركة بيع الوقود عبر تخصيص حصص محددة تُصرف لكل سيارة، وحظر سير سيارات الدفع الرباعي رغم أنها الأنسب لطبيعة الأرض الصحراوية، فضلاً عن منع المواطنين المصريين من خارج "أرض الفيروز" من دخولها سوى بتصريح أمني مسبق، وقطع الاتصالات وشبكة الإنترنت والمياه بشكل دوري عن أغلب مناطق "شمال سيناء". وتزامن مع ذلك غلق ميناء العريش أمام حركة الملاحة، وإغلاق بحيرة "البردويل" أمام الصيادين، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الأسماك، وأسفرت تلك الإجراءات عن تضرر الأنشطة التجارية للسكان بشكل بالغ.
لكن بدأت تتحسن الأوضاع في الأشهر الأخيرة، خاصة مع انخفاض وتيرة هجمات التنظيمات المسلحة، بقيادة تنظيم "ولاية سيناء" على أفراد ومنشآت الجيش المصري إلى ما دون 5 هجمات شهرياً، فضلاً عن تلاشي الحوادث الأمنية تماماً من مدينة "العريش"، عاصمة المحافظة. ومن ثَم بدأت مظاهر النشاط التجاري والاقتصادي والحياة الطبيعية تعود مجدداً إلى "شمال سيناء" وبالأخص في مدينة "العريش" وهو ما تجلى في عدة مظاهر:
- عودة الصيد إلى بحيرة البردويل
تمثل بحيرة "البردويل" أحد أبرز مصادر الأسماك بشمال سيناء، لكن الصيد بها مُنع بقرار أمني في ظل وجود حظر شامل للصيد في المنطقة الممتدة من شرق بورسعيد حتى خط الحدود الدولية خوفاً من استغلال الجماعات المسلحة لمراكب الصيد في تهريب المعدات القتالية أو شن عمليات هجومية على الجيش المصري. لكن حدث تطور جديد مؤخراً، ففي 9 فبراير/شباط 2021 اجتمع عبدالفتاح السيسي مع الرئيس التنفيذي لشركة "ديمي" البلجيكية لأعمال التكريك، رفقة الفريق "أحمد خالد" قائد القوات البحرية وعدد من الوزراء.
تناول الاجتماع مخطط تطوير وتنمية بحيرة "البردويل" بشمال سيناء. في شهر مارس/آذار الماضي وافقت الأجهزة المعنية على عودة الصيد بالبحيرة لمدة شهر تجريبيًا، على أن تنطلق عمليات الصيد بشكل دائم في عيد "تحرير سيناء"، وهو ما حدث بالفعل في 25 أبريل/نيسان 2021، لتعلن إدارة البحيرة في بيان أصدرته بتاريخ 29 أبريل، أن إنتاج البحيرة بلغ في ثالث أيام الصيد 245 طناً، وهو ما ساهم في خفض أسعار الأسماك في مدينة العريش من 100 جنيه لكيلو سمك الدنيس لتصبح ثلاثين جنيهاً للكيلو.
- إعادة تشغيل ميناء العريش، وفتح سوق الجملة
يمثل ميناء "العريش" شرياناً اقتصادياً حيويا لشمال سيناء فمن خلاله يُصدر الرمل الزجاجي والأسمنت والملح. وقد أدى غلق الميناء سابقاً إلى إضعاف حركة التجارة بالمحافظة. لكن في 6 ديسمبر/كانون الأول 2020 أعلن محافظ "شمال سيناء" بدء تشغيل ميناء "العريش القديم" بالتزامن مع أعمال تطوير في ميناء آخر جديد، وذلك بعد موافقة السيسي على إعادة تشغيل الميناء. وبحلول 7 مارس/آذار 2021 أي خلال 3 شهور من عودة العمل استقبل الميناء 16 سفينة لنقل وتصدير البضائع. وفي دفعة أخرى لحركة التجارة بشمال سيناء، جرى افتتاح سوق الجملة الجديد بالعريش في أبريل 2021 على مساحة 14 فداناً بتكلفة 167 مليون جنيه، وذلك في منطقة الكيلو 17 غرب مدينة "العريش" على الطريق الدولي (العريش/القنطرة).
- توافد الوزراء لزيارة العريش
خلال مرحلة تردي الحالة الأمنية بشمال سيناء، اقتصرت زيارات الوزراء بشكل رئيس على وزيري الدفاع والداخلية لمتابعة سير العمليات القتالية، لكن مؤخراً بدأ توافد الوزراء المدنيين على سيناء، ففي 25 ديسمبر/كانون الأول زارت وزير الصحة، هالة زايد مدينة "العريش"، حيث تفقدت سير العمل بمستشفى العريش العام في ظل تزايد أعداد المصابين بكورونا، وتزايد الحديث على وسائل التواصل الاجتماعي عن وجود أزمة في توفير الأوكسجين للمرضى بمستشفى العريش.
وفي يومي 11 و12 فبراير/شباط 2021 زار أشرف صبحى وزير الشباب والرياضة مدينة العريش لمدة يومين، وذلك لحضور بعض الفعاليات الرياضية مثل افتتاح دوري الأحياء السكنية بالصالة المغطاة بالعريش، وحضور نهائي دوري مراكز الشباب بشمال سيناء. ثم في يومي 7 و 8 أبريل/نيسان 2021 زارت وزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم مدينة العريش لافتتاح قصر ثقافة العريش بعد الانتهاء من تجديده عقب إغلاقه منذ عشر سنوات.
- فتح حركة المرور بميادين العريش
في 18 ديسمبر/كانون الأول أعيد فتح ميدان الفواخرية "أبوبكر الصديق" بمدينة العريش أمام حركة المرور بعد إغلاقه لعدة سنوات عقب تدهور الوضع الأمني سابقاً. وفي 12 مارس/آذار شهد طريق العريش – الشيخ زويد الساحلي، فتح مسار الحركة المرورية بحارتيه على طول الطريق، بعد أن كانت الحركة عليه قاصرة على حارة واحدة. وتم رفع الحواجز الأسمنتية والرملية لتيسير حركة المرور.
انعكاسات الملف الفلسطيني على سيناء
فضلاً عن التطورات المحلية في سيناء، فإن التغير الملموس مؤخراً في سياسة النظام المصري تجاه قطاع غزة عقب معركة "سيف القدس" وصولاً إلى زيارة رئيس المخابرات العامة المصرية لغزة لبحث سبل تثبيت الهدنة مع الكيان الصهيوني، وما تلا ذلك من دخول قرابة ٥٠ معدة إزالة ركام مصرية إلى القطاع فضلاً عن توالي إرسال قوافل المساعدات للقطاع، وانتقال وفد إعلامي مصري من ٨ إعلاميين إلى غزة يوم ٨ يونيو/حزيران لبث حلقة برنامج (صباح الخير يا مصر) في اليوم التالي من أمام برج الشروق المدمر، يشير إلى أن العلاقات المصرية-الغزاوية تتجه لمزيد من التنسيق. وهو ما سينعكس على المشهد السيناوي، سواء من جهة تنشيط الحركة الاقتصادية في سيناء عبر توفير احتياجات إعادة الإعمار في غزة من شمال سيناء بالدرجة الأولى وبالأخص في قطاعات المقاولات والبناء والأسمنت، فضلاً عن مزيد من التنسيق الأمني بين الجانبين لمنع انتقال عناصر مسلحة من القطاع إلى سيناء للانضمام إلى تنظيم الدولة، وهي الظاهرة التي تراجعت بداية من عام ٢٠١٧ في ظل التنسيق الأمني بين القاهرة وغزة.
هدوء ولكن
المستجدات السابق ذكرها ذات دلالات مهمة، ويوضح أهميتها دليل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لتحليل التمرد المسلح، فعند الحديث عن مؤشرات انتصار الحكومة على المتمردين لا بد من قياس مؤشرات مثل: عودة الحياة اليومية إلى طبيعتها، وعمل الخدمات الحكومية والإدارية بكامل مهامها، وزيادة النشاط التجاري، وإعادة فتح الأسواق، إمكانية سفر المسؤولين الحكوميين رفقة الحد الأدنى من الحراسة الأمنية، وإمكانية قضائهم ليالي في المناطق التي كانت تُعد في السابق غير آمنة. وهو ما يشير إلى أن الوضع في سيناء دخل مرحلة جديدة بالفعل.
ورغم تلك المستجدات فإنه توجد حالة من الاحتقان الشعبي لدى سكان العريش على خلفية مخطط تطوير مدينة "العريش" الذي تشرف عليه الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة رفقة المحافظة، والذي يتضمن إنشاء 3 محاور جديدة ما تطلب هدم مسجد "الخلفاء الراشدين"، ذي الحيثية الاجتماعية والمكانة الدينية، و40 منزلاً في المنطقة الممتدة من شارع "الخلفاء الراشدين" حتى ميدان "النافورة"، فضلاً عن التخطيط لهدم منازل منطقة "شاليهات السعد" على ساحل العريش ضمن مخطط توسعة الميناء الجديد، وهو ما يهدد 4 آلاف أسرة نظم أفرادها وقفات احتجاجية للمطالبة بعدم هدم منازلهم وتوسيع الميناء في مناطق أخرى غير مأهولة بالسكان.
ولابد من الانتباه إلى أن الإجراءات الحكومية أحادية الجانب ترسخ الشعور بالظلم وتوجد حالة من عدم الرضا والغضب بين المواطنين، وهو ما يحرص أي نظام لديه عقل سياسي على تلافيه قدر الإمكان.
وفي المحصلة، فإن سيناء تتطلب مراعاة متطلبات سكانها، وحل العديد من المظالم الواقعة عليهم من قبيل تعويض المتضررين من العمليات العسكرية تعويضاً عادلاً عن منازلهم وأراضيهم ومزارعهم وأعمالهم التي هجروها أو تعرضت للتدمير، وإغلاق ملف المختفين قسريا، ووقف التصفيات الجسدية ضد المشتبه بهم، وعودة المهجرين إلى قراهم، كي يستشعر سكان سيناء بأن هناك أملاً في غد أفضل لهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.